الفخر في الأدب الجاهلي ( دراسة موضوعية لشعر الفخر عند قيس بن الخطيم )

 يُعَدُّ الفخر غرضًا شعريًّا وجدانيًّا متأصلًا في الشعر العربي، لما له من ارتباط وثيق بحياة الناس والمجتمع في العصر الجاهلي.

وهو من الفنون الأدبية التي يمكن من خلالها وضع تصور لما كانت عليه طبيعة الحياة، وبعض جوانبها السياسية والاجتماعية والفكرية والنفسية في التاريخ العربي القديم، وبحكم صلته الوثيقة بحياة الناس في المجتمع البدوي، وما يصاحب هذه الحياة من صراعات ومنافسات وحروب.

فقد كثر في أشعارهم، وتعددت أنواعه وأساليبه، واشتمل على معانٍ وصورٍ مختلفة ومتشابهة -أحيانًا- تدعو إلى إمكانية تصنيفه وتبويبه، لا سيما في مرحلة زمنية متقدمة قد تعطينا صورة حيوية لهذا الفن قريبة من الواقع.

اقرأ أيضًا كتاب "أسرار عقل المليونير".. اقرأ الأن

الفخر في الشعر الجاهلي

والفخر من الفنون القديمة، وفيه جانب فطري يميل إلى التغني بالفضائل والمكارم، وكان وجوده في أدب العصر الجاهلي شائعًا بسبب وجود التنافس والتقارع بين القبائل، وكل قبيلة لها شعراؤها، وكل شاعر يُعلي من شأن قبيلته لا سيما إذا وُجد فيها مَن يستحق الإشادة، فيُفتخر به ويعظم شأنه.

 والفخر في الشعر الجاهلي ذو اتجاه عاطفي؛ لأن الشاعر يفرغ في قصائده شحنة عاطفية بما يضمر في نفسه من حب كبير لقبيلته وأبنائها المحامين عنها والمخلصين لها، وتكمن قيمته الاجتماعية في ما ينشره من المكارم والمفاخر التي تكون مطلبًا لمن يسعى إلى المجد.

 ومكانة الفخر في الأدب العربي كبيرة، وقد لا نجد شاعرًا عربيًّا لم يتطرق إليه أو يتناوله -بقلة أو بإسهاب- في شعره قديمًا وحديثًا، فلا يخلو منه ديوان شاعر؛ لأن في نفس العربي -عمومًا- ميلًا إلى الإشادة بالنفس والأهل والوطن.

 وكثير من علماء الشعر يعدونه من الأغراض الرئيسة من فنون الشعر، فقد عدَّه أبو تمام أبرز موضوعات الشعر في كتابه ديوان الحماسة.

وكما يذكر ابن رشيق القيرواني في كتابه العمدة أن أغراض الشعر خمسة: النسيب والمدح والهجاء والفخر والوصف(1)، وربما عدَّه بعضهم من المديح، كما فعل قدامة بن جعفر في كتابه فن الشعر.

في حين أهمله بعضهم ولم يذكره في فنون الشعر مثل أبي هلال العسكري في كتابه «ديوان المعاني»، ولا نعرف سببًا واضحًا لإغفاله على الرغم من أهميته، ويرى الدكتور شوقي ضيف أن أبا هلال العسكري نسي ذكره على الرغم من أنه من أكثر الموضوعات دورانًا على ألسنة الشعراء(2)، وهذا موضع استغراب.

أغراض الفخر في الشعر العربي

ولكن لا ريب أن موضوع الفخر كان يتخذ مكانة أصيلة بين أغراض الشعر الأخرى، كما أنه غرض لا يحتاج -عادة- إلى لغة صعبة أو معان مبهمة بل يتميز كثيرًا بالسهولة في الأسلوب والبساطة في اللغة، من أجل وضوح الفكرة وسهولة إيصالها إلى المتلقي.

فارتباط الشاعر بمستمعيه يكون في أوج حالاته إذا أراد الشاعر أن يفتخر، وهذا الأمر لا يقلل من قيمته وأهميته على الرغم من أن بعضهم يرى أن النص الأدبي يجب أن يكون فيه كم من الإبهام والغموض ليرتقي إلى الشعرية.

فهو عند بعضهم «مجموعة الألفاظ والعبارات التي تطرد في بناء منظم متناسق يعالج موضوعًا أو موضوعات في أداء يتميز عن أنماط الكلام اليومي والكتابة غير الأدبية، بالجمالية التي تعتمد على التخيل والإيقاع والتصوير والإيحاء والرمز»(3).

ويرتبط شعر الفخر بالحماسة، فهما في الغالب يشكلان غرضًا واحدًا، وبعضهم يرى أنهما غرضان، «وهما الغرضان الغالبان على ما عداهما من الأغراض الشعرية التي طرقها الشاعر الجاهلي عند تعرضه لأيام قومه.

وقد اتسع لهما المجال أمامه بسبب من سعة معانيهما وتشعب جوانبهما، ولانسجامهما مع طبيعة المجتمع الجاهلي القبلي، فأقصى ما كانت تأمله القبيلة في الجاهلية هو صوت يجهر بمآثرها ليطغى على غيره من أصوات القبائل المعادية.

فكان الشاعر في مثل هذا المجتمع ذلك الصوت المعبر عن أماني قبيلته، فرجالها يبدون من خلال شعره أبطالًا مغاوير يتميزون بالصبر والجلد في المعارك، ويجودون بدمائهم من أجل الظفر»(4).

اقرأ أيضًا الكاتبة نورا ناجي وعلاقتها بأروى صالح.. الجوائز ليست الحافز الوحيد

أمثلة على الفخر في الشعر

وقد يكون قيس بن الخطيم مثالًا بارزًا لموضوع الفخر في شعر العصر الجاهلي، فقد اهتم به اهتمامًا واسعًا، وأفرد له حيزًا كبيرًا في شعره، وكان سباقًا في ذلك، حتى إن قومه كانوا يشيدون به وبشعره.

ويكفيه فخرًا أن قال عنه حسان بن ثابت: إنا إذا نافرتنا العرب فأردنا أن نخرج الحبرات من شعرنا أتينا بشعر قيس بن الخطيم(5). وكان معاوية بن أبي سفيان إذا حضره وفد من أهل المدينة يقول: انشروا علينا من حبرات قيس(6). وقيس بن الخطيم من شعراء المدينة المنورة من الأوس من قوم يقال لهم النبيت، عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام لكنه لم يسلم، وقد قتل قبل الهجرة(7).

يمكن أن نلحظ أن الفخر في شعر قيس بن الخطيم يأخذ اتجاهين: أولهما: اتجاه فردي يفتخر فيه الشاعر بنفسه مستقلًا بالمكارم لذاته دون سواه.

وهذا الاتجاه يسير في عدة محاور تصب كلها في اعتزاز الشاعر بنفسه، وبما يمتلكه من مواهب وصفات. وثانيهما: أن يفتخر الشاعر بقومه وأبناء جلدته، وبما لهم من عراقة الأصل وأصالة التأريخ وقوة الشكيمة وتسنم المجد.

وعلى هذا فالفخر عنده ينقسم بين الذات والآخر، ولإيضاح هذه المفاهيم في شعر قيس يمكن أن نسير بهما على النحو التالي:

 أولًا: الافتخار بالذات.

وهو الافتخار الفردي، ويبنى على مجموعة من الصفات الشخصية التي يتباهى بها الشاعر على غيره، وهي صفات كريمة يدّعي الشاعر أن له قصب السبق فيها على غيره، وأنه جدير أن يفتخر وهو يحمل هذا الكم من الخصال الرفيعة، ومن أهم محاور هذا الاتجاه:

·  الافتخار بالكرم

الكرم وهو أحد الأسس الخلقية التي تمثل صورة الإنسان المثالي عند العرب، ثم هو بعد ذلك صورة من صور الخلق العربي الأصيل الذي درجوا عليه فصار طبعًا متوارثًا فيهم.. (8)، يقول الشاعر(9):

  تقول ظعينتي لــما استقلت          أتترك  ما جمعت صــــــريم سحرِ

فقلت لها : ذريني إن مالي          يروح إذا غلبتهم ويســـــــري

هذا مثال مميز لما يمكن أن يكون عليه شاعر يريد أن يفتخر بكرمه، ونكاد أن نلمح من خلال أسلوب البيتين صورة حاتم الطائي في واحدة من عيون شعره، الذي يدور أغلبه في وصف الكرم، واستدعاء شخصية الزوجة العاذلة صورة تقليدية دأب كثير من الشعراء على إدراجها للتمكن من فتح باب للفكرة التي يريد أن يطرحها الشاعر.

وغالبًا ما يكون عذل الزوجة منصبًا على سفاهة الزوج في تبذير أمواله لأغراض لا تراها نافعة، وزوجة قيس بن الخطيم تلومه على هدره لأمواله التي جمعها بمشقة وسهر، وتتمنى من زوجها أن يكف فلا يبذر.

ولكنها لا تجد الإجابة التي ترغبها، بل تجد الجواب التقليدي الذي يأتي دائمًا في مثل هذه المواقف «ذريني إن المال يذهب ويجيء».

ولا يبدو أن الشاعر يريد أن يكف عن هذه الميزة التي يفتخر بها، والتي تراها زوجته سُبَّة، ولذلك يقول(10):

              وليس بنافع ذا البخل مالٌ        ولا مزرٍ بصاحبه السخاء

فهذه إحدى الصفات الشخصية التي ينطلق منها قيس بن الخطيم في تفاخره بنفسه، وقد يرتبط مدلول هذه الصفة بغيرها من الصفات التي تتناسب معها وتتناسق بمثالية، وذلك بأن يكون الكريم متعففًا مستغنيًا عن الناس حتى وإن كان في عوز.

وقد يظن بعضهم أن الكريم يكون دائمًا صاحب جاه وثراء، وهذا ما يبدو ظاهرًا في الأعم الأغلب، ولكن الكرم عندما يصدر من محتاج يكون أسمى وأعظم وأبلغ في التأثير؛ لأن الغني مهما بالغ في العطاء لا يفقد كثيرًا إذا قِيسَ بما يملك.

أما المحتاج فإنه يهب كل ما لديه فيكون عطاؤه أسخى وأبلغ، ويبدو أن شاعرنا من هذا النوع الذي لا يبقي لنفسه شيئًا، وهو الذي يقول(11):

       وإني لأغنى الناس عن متكلف      يرى الناس ضلاّلا وليس بمهتدِ

       كثير المنى بالزاد لا خير عنده     إذا جاع يوما يشتهيه ضحى الغدِ

وكيف لا يكون على هذه الشاكلة، وهو لا ينظر إلى المال إلا على أنه وسيلة لاكتساب المجد والرفعة والاستئثار بالفضائل.

      فما المال والأخلاق إلا معارة     فما اسطعت من معروفها فتزودِ(12)

اقرأ أيضًا معارضة قصيدة لــ "إيليا أبي ماضي" على يد شاعر نيجيري

معنى البطر عند قيس بن الخطيم

ولا يجب أن يتبادر إلى أذهاننا أنه متلاف يصرف المال بإسراف وفي غير وجهته الصحيحة؛ لأن ذلك -من وجهة نظر الشاعر- يكون بطرًا، وهي صفة لا يريد أن يتصف بها قيس بن الخطيم.

         فإن تك قد أوتيت مالًا فلا تكن       به بطرًا والحال قد تتحولُ

 وعليه فإن الشاعر لا يرى أن الغنى يتحقق عن طريق الحرص على جمع المال وادخاره، كما أن المال يجب أن ينفقه في الطريق الصحيح الذي يخدم به أهله وقومه؛ لأن الحريص على المال لن يغتني ما دامت نفسه غير مشبعة، ولربما كان العاجز أثرى منه إذا أنفق ما يملك من مال قليل على ما يسمو بذكره ويرتفع بصيته؛ لأن الغنى -في نظره- غنى النفس، أما فقر النفس فهو الشاء الذي لا يريد أن يقع فيه، وبهذا يصرح في إحدى قصائده فيقول (13):

        فلا يُعطى الحريص غنى لحرصٍ       وقد ينمى لذي العجز الثراءُ

        غنى النفس ما استغنى غنـيّ        وفقر النفس ما عمرت شقاءُ

ولذا نجد قيس بن الخطيم لا يرضى أن يكون من البخلاء الذين يحرصون على المال ولا ينفقونه متى ما توجب إنفاقه، بل يفتخر بكرمه وعطائه الذي يخدم به عشيرته.

وقد يتخذ الكرم -أحيانًا- طابعًا جماعيًّا في شعر قيس، فلا يفتخر بكرمه وحده بل بكرمه وكرم عشيرته، كما في قوله(14):

           ونحن حماة للعشيرة أينمـا        نكن لا يبالوا أن يغيبوا ونشهدا

           نحامي على جذم الأغر بمالنا       ونبذل حرزات النفوس لنحمدا   

وهكذا نلحظ وجود نوع من التقارب بين افتخار الشاعر الشخصي وافتخاره الجماعي، فقد تجاوزت سمة الكرم عنده موقعها الذاتي الخاص بالأنا إلى ما هو أكبر، إذ ارتبطت بقبيلته التي تمثل -في نظره- الأنا الكبرى.

·  الافتخار بالشجاعة

الشجاعة من الصفات الكريمة التي أحبها العربي في جاهليته، ونشأ على تعلمها بحكم بيئته التي رأينا كيف اشتعلت فيها نيران الحروب أيامًا طوالًا بدافع اقتصادي، أو بسبب الثأر الذي ينجم عنها(15).

والشجاعة من أبرز الصفات التي يمكن أن يتفاخر بها الشاعر وغير الشاعر، ولكن لدى الشاعر القدرات الإبداعية والثروة اللفظية التي تهبه مجالات كبيرة للتعبير عن افتخاره اللامحدود بهذه الصفة التي يتميز بها والتي تكون مطلوبة بشدة في عصر كالعصر الجاهلي.

«والشجاعة عند العرب على هذا الأساس لها أهمية كبرى في صنع مصائر كثير من الأفراد والجماعات عندهم، وهي أيضًا كمعنى نبيل وصورة شريفة لها مفهومها الخاص عندهم وشروطها المهمة في الحرب والسلم»(16).

ولأهمية الشجاعة عدَّها قدامة بن جعفر من الصفات الخلقية الأساسية، فقد جعلها أحد أربع خصال أصيلة، باجتماعها تتكون شخصية الإنسان الكامل تقريبًا، وهي العقل والشجاعة والعدل والعفة(17).

من النصوص المتميزة التي يفتخر فيها قيس بن الخطيم بشجاعته الفردية قصيدته الهمزية، التي يملؤها ضجيجًا وصخبًا بقوته وفتوته، والتي لا نجد لها نظيرًا فيما قرأناه وسمعناه من نصوص كثيرة تطرقت إلى موضوع الفخر، ولا سيما بالشجاعة، يقول(18):

      ثأرتُ عديا والخطيم ولم أضع        ولاية أشياء جُـــعلتُ إزاءها

      ضربتُ بذي الزرين ربقة مالك ٍ       فأبتُ بنفسٍ قد أصبتُ شفاءها

      وسامحني فيها ابن عمرو بن عامر       خداشٌ فأدى نعمة وأفاءهــا 

      طعنتُ ابن عبد القيس طعنة ثائر       لها نفذ لولا الشــعاع أضاءها

      ملكتُ بها كفي فأنهرتُ فتقهـا        يرى قائما من خلفها ما وراءها

      يهون عليّ أن ترد جراحـــه       عيون الأواسي إذ حمدت بلاءها

      وكنتُ امرءًا لا أسمع الدهر سُبَّة       أسب بها إلا كشفت غطــاءها

      وإني في الحرب الضروس موكلُ       بإقدام نفس ما أريد بقـــاءها

      إذا سقمت نفسي إلى ذي عداوة         فإني بنصل السيف باغ دواءها

      متى يأت هذا الموت لا تبق حاجة        لنفسي إلا قد قضيت قضاءها

      وقد جربتْ مني لدى كل ماقط ٍ        وحتى إذا ما الحرب ألقت رداءها

اقرأ أيضًا ماذا تعرف عن سيد الشعر العربي أبي نواس؟

الشجاعة مع الأعداء

ما لا يدع مجالًا للريب أن الشجاع هو الذي لا يتوانى عن الأخذ بثأر مَن  وقع صريعًا من أقربائه وأحبته على يد الأعداء.

وابن الخطيم يرى ذلك من الواجبات المكلف بها، والتي تمليها عليه شجاعته وبسالته، فإن نفسه لا تستكين إلا أن يعود من حرب أعدائه غانمًا وقد قضى منهم وتره، «فوصية أشياخه بالثأر جعلته مسؤولًا عنه، وقيِّمًا عليه.

أما الصلح فمعناه الذل والمهانة عندهم؛ لأنه يجلب العار على أهله» (19)؛ لذا لا يمكن أن يفرط فارس مثله بهذا الشرف فيلحقه عار الهزيمة والاستسلام إلى الأبد، ويقول قيس أيضًا واصفًا شجاعته(20):

    أربتُ بدفع الحرب حتى رأيتها       عن الدفع لا تزداد غير تقارب

    فإذا لم يكن عن غاية الموت مدفع        فأهلا بها إذ لم تزل في المراحب

    فلما رأيت الحرب حربا تجردت        لبست مع البردين ثوب المحارب

فهذه إحدى الصور التي يبين لنا فيها الشاعر قوته وشجاعته التي تفوق التصور، والتي نجد فيها صوت الأنا مرتفعًا، فهو يرحب بالموت إذا لم يكن منه بد، كما أنه يرى هذا الموت غاية يريد الوصول إليها لا سيما أن الحرب واقعة لا محالة، ولا تزداد إلا تقاربًا بدفعها.

وكذلك نجد الشاعر يعيب على مَن يكون همُّه الحفاظ على سلامته ودفع الموت عنه بكل وسيلة، حتى إن لم يكن في ذلك فضل ذكر يتباهى به.

       فقل للمتقي عرض المنايا       توق وليس ينفعك اتقاء(21)

وقد تعرض للشاعر مَن يلومه على مثل هذا الاندفاع واللامبالاة بالحياة، وبذلها لا لشيء إلا من أجل الصيت والمجد الذي يحظى به.

إذ يشيد به الرجال وبشجاعته المنقطعة النظير، والشاعر يجد دائمًا الرد المناسب لمن يعذله على مواجهة الموت وتحدي الصعاب، كما في أبياته التي يرد بها على عاذلته التي تنصحه بعدم المواجهة، فيقول(22):

       فذلك ما قد تعلمين وإننــي      لجلد على ريب الخطوب متين 

       أمرّ على الباغي فيغلظ جانبي        وذو القصد أحلولي له وألين 

كل ما رأيناه من افتخارات الشاعر بسمة الشجاعة كانت تذهب في اتجاه فردي، مبتعدًا فيه عن الإشادة بالآخر مستقلًا بنفسه، ولذلك كان صوت الأنا فيه عاليًا، ولكن يمكن أن نجد في أماكن كثيرة من ديوانه افتخارًا جماعيًّا بشجاعة كل من ينتمي إلى قبيلته، فيختلط لديه افتخار الذات بالآخر.

·  الافتخار بالصورة الحسنة

قيس بن الخطيم من القلائل الذين افتخروا بجمالهم وحسن صورتهم، إذ تشير المصادر إلى أنه كان ممن يتعممون مخافة النساء على أنفسهن من حسن صورته وجماله(23).

وذكروا من صفته أنه كان مقرون الحاجبين، أدعج العينين، أحم الشفتين، براق الثنايا كأن بينهما برقًا، حسن الصورة، ما رأته حليلة رجل قط إلا ذهب عقلها(24)، ومن أروع ما يصور افتخاره بهذه الفتوة التي قد لا تتهيّأ إلا لقلة من الناس من أمثاله أبياته التي يقول فيها(25):

     ومثلك قد أصبيتُ ليست بكنةٍ      ولا جارة أفضت إليَّ حياءهــا

  إذا ما اصطحبتُ أربعا خط مئزري      وأتبعتُ دلوي في السخاء رشاءها

فهو يبين لصاحبته التي يخاطبها في هذه الأبيات بأنه قد أوقع بغيرها من النساء ممن هي ليست متزوجة ولا جارة؛ لأنه يأنف من التعرض إلى ذات البعل والجارة، حتى وإن لم يمنعها عنه الحياء، ولا ينسى الشاعر إذ يذكرها بكبريائه وفتوته التي يفتن بها العذارى.

ويستخدم الشاعر مرة أخرى الصورة ذاتها ليبدي فتوته لامرأة أخرى تركها قبل مدة من الزمن وهي عذراء يافعة، ولكنها بلغت نضجها حينما رآها بعد ذلك فلم يخف دهشته، ولم ينس أن يفتخر مرة أخرى بجماله وقدرته على سبي قلوب العذارى.

             ولم أرها إلا ثلاثًا على منى      وعهدي بها عذراء ذات ذوائب(26)

             ومثلك قد أصبيت ليست بكنة      ولا جارة ولا حليلة صاحب

إن تكرار الصورة عند الشاعر دلالة على تكرار التجربة، وفي ذلك إشارة إلى نفسية الشاعر التي تهوى التنقل بين هوى الفاتنات، ويمكن أن نجده يعود مرة أخرى إلى واحدة من صواحباته ليبين لها افتتانه وشدة شوقه وحنينه إليها.

ولكن يذكرها بأيام مضت كانت تفيض له بالود وتبذل له ألوانًا من العشق، وهو يشير بشيء من الحسية إلى ما كانت تتمتع به صاحبته من جمال الجسد.

       لعمرة إذ قلبه معجبٌ        فأنى بعمـــرة أنى بها(27)

       ليالٍ لنا ودها منصبٌ        إذا الشول لطت بأذنابها

نسب المرأة عند الشعراء 

لا يخفى أن الشاعر يضع نفسه معشوقًا من حيث أراد أن يكون عاشقا، فهو عاشق لجمال المرأة فحسب، وفي ذلك دلالة على أن عشقه لم يكن عذريًّا، بل فيه نرجسية رأيناها في غزل امرئ القيس، وتمثلت في أجلى مظاهرها في غزل عمر بي أبي ربيعة، ويكاد ابن الخطيم أن يكون أحدهما في هذه الأبيات وفي غيرها.

إذ نراه يتحول من فتاة إلى أخرى متقلبًا في عشق الفاتنات اللواتي يشغفن قلبه بصفاتهن الحسان، وهكذا نجده طائرًا من زهرة إلى أخرى دون وازع أو رادع، فتخلى عن صاحبته «كنود» ليستبدل بهواها هوى آخر لامرأة أخرى، هي أبهى منها جمالًا وأكثر حسنًا.

         صرمتَ اليوم حبلك من كنودًا        لتبدل حبلها حبلًا جديدا

         مــن اللائي إذا يمشين هونًا          تجلببن المجاسد والبرودا

         كأن بطــونهن سيوف هند         إذا ما هن زايلن الغمودا(28)

ولكننا في أحيان قليلة نجد قيس بن الخطيم متذللًا متضرعًا للمرأة، وذلك إذا كان يصدر في مشاعره عن حب حقيقي يأخذ بمجامع قلبه، وليس كما اعتاد غالبًا عاشقًا لجمال المرأة فحسب، ولذك يقول لإحداهن في شيء من التوسل والتذلل(29):

     والله ذي المسجد الحرام وما        جلل من يمنة ٍ لهـــا خنـــفُ

      إني لأهواك غير ذي كــذب        قد شف مني الأحشاء والشغفُ

      بل ليت أهلي وأهل أثلة في         دار قريب من حيث تختلـــفُ

اقرأ أيضًا القراءة وعلاقتها بالمعرفة.. بدءاً من اقرأ إلى مراتب الوعي

·  الافتخار بالأخلاق الكريمة

محور آخر من محاور الافتخار التي ينطلق منها قيس بن الخطيم، وذلك في التباهي بمجموعة من الخصال الحميدة التي تؤلف جزءًا من شخصية الشاعر، وهو نوع من التفاخر الشخصي الذي لا يرتبط بالمجموعة.

وإنما يكون الزهو خاصًّا بالشاعر دون سواه، ولذلك يطغى صوت الذات وراء غياب الآخر في هذا الجانب من الافتخار، الذي يتألف من عدة جوانب؛ لأن الشاعر يتميز بخصال كثيرة يذكرها -أحيانًا- في قصائده.

      من الأمور الكثيرة التي يمتدح بها الشاعر نفسه أنه من أصحاب الحلم، إذ يصبر على البلاء في سبيل قومه، على ألا يؤدي به هذا الحلم إلى الصغر، وبهذا الأمر يصرح في بعض أشعاره كقوله (30):

     تحمّلتُ ما كانت مزينة تشتكي      من الظلم في الأحلاف حمل التغمدِ

     أرى كثرة المعروف يورث أهله      وسوّد عصر السـوء غير المسودِ

     إذا المرء لم يفضل ولم يلق نجدة      مع القوم فليقعد بصغر ويبعــدِ

فهو حليم، يصبر على الأذى الذي يلقاه من أحلاف قومه كي لا يخرج عن رأيهم، ولكن إذا كان للحلم مواضع وللصبر حدود فإنه في نهاية الأمر لا يتوانى أن يشعل الحرب على أعدائه إذا أبوا إلا الحرب، وهكذا يكون قد بلغ من لدنهم عذرًا(31).

    دعوت بني عوف لحقن دمائهـــم      فلما أبوا سامحت في حرب حاطبِ

   وكنت امرأ لا أبعث الحــرب ظالما      فلما أبوا أشعلتها كل جانـــبِ

ويفتخر قيس -أيضًا- بحكمته وتجربته في الحياة ما خلق فيه رجلًا ذا شيم وأخلاق، وإن كانت هذه الأخلاق -في نظر غيره- مساوئ؛ لأن بعضهم يرى الكرم إسرافًا فيعذله على ذلك، ولكن الشاعر لا يعبأ به، ويبين له أن المال والأخلاق ودائع.

وعلى المرء أن يتزود منها، كما أنه يجب أن يكون مع الحق ضد الباطل، وأن يأتي الأمور من أبوابها كي لا يضل عن جادة الصواب، يقول(32):

        وذي شيمة عسراء تسخط شيمتي      أقول له : دعني ونفسك أرشدِ

        فما المال والأخلاق إلا معــارة       فما استطعت من معروفها فتزودِ

        متى ما تقد بالباطل الحق يأبــه      وإن قدت بالحق الرواسي تنقدِ

        متى ما أتيت الأمر من غير بابه      ضللت وإن تدخل من الباب تهتدِ

الأخلاق مدعاة للتفاخر

وإذا كان الشاعر يفتخر بمزاياه الأخلاقية فلا بد من أنه يذم غيره من الناس إذا كان على غير سيرته ومعدنه الأخلاقي، فشاعرنا لا يظلم ولا يبتدئ بالعداوة، ولا يبلغه القصور في الملمات الصعاب، ومع ذلك هو يعرف أن ذلك لا يأتي إلا بتوفيق من الله.

      وبعض خلائق الأقوام داءٌ       كداء الكشح ليس له شفاءُ(33)

      ألا من مبلغ الشعراء عني       فلا ظلم لديّ ولا ابتــــداءُ

      ولستُ بعائط الأكفاء ظلما       وعندي للملمات اجتـــراءُ

ومن خلائقه التي يتفاخر بها حفظه لسر إخوانه، وكتمانه لخفايا عشيرته، فهو أمين عليها لا ينشرها، بل يكون لها مستقر في سويداء قلبه.

         إذا جاوز الاثنين سرٌ فإنـه     بنشر ٍوتكثير الأحاديث قمينُ(34)

         وإن ضيع الإخوان سرا فإنني      كتومٌ لأسرار العشير أمينُ

         يكون له عندي إذا ما ضمنتهُ      مقرٌ بسوداء الفؤاد كنينُ

وكذلك فإن قيس بن الخطيم يحفظ غيبة جاره، ويحفظ عرضه، ولهذا فجار قيس مطمئن بجواره، لا يخشى منه فجيعة، ولا يحاذر على أهله في مجاورته؛ لأن قيس عفيف يغض بصره ويحفظ نفسه من الوقوع في الزلل، وإذا رحل جيرته عنه لا يكون وداعه إلا بالحسنى، فهذا ديدنه الذي يصرح به في قوله(35):

        وهل يحذر الجار الغريب فجيعتي     وخوني وبعض المقربين خؤونُ

        وما لمعت عيني لغرة جــارة    ولا وُدّعتُ بالذم حين تبيـــنُ

وأخيرًا فإن قيس بن الخطيم يحفظ الأمانة ويرعاها، ولو قدر على إخفائها تحت جلده لفعل، وبهذا يصرح لصاحبه «عمرو»، ويؤكد له أنه ممن يحفظ الأمانة، ويكتم الأسرار حتى لو ارتاب منها في شيء فإنه لا يشيعها مطلقًا.

        يا عمرو إن تسدُ الأمانة بيننــا      فأنا الذي إن خنتها يرعاها (36)

        يا عمرو ليس أخو الأمانة بالذي      ما رابه من خطة أفشاها

        يا عمرو إن أخا الأمانة كاتـمٌ       لو يستطيع بجلده أخفاها

أهمية المعاني السابقة في الأدب

قد تكون المعاني التي يتناولها الشاعر في فخره الشخصي تقليدية شائعة، ولكن يميز الشاعر أنه مكثر ويذهب إلى موضوعات كثيرة؛ ليبرز هذا النوع من الافتخار الفردي الذي تنطوي عليه نفسيته الخاصة.

فالذات عند الشاعر مفعمة بالزهو والخيلاء التي تجتاح نفسه وتطغى لتنصب في النهاية في قوالبه الشعرية، وقد وظف لغته الشعرية الخاصة به توظيفًا اجتماعيًّا، فهذه اللغة على الرغم من بساطتها -لحاجة الشاعر إلى السهولة-؛ فإن الشاعر كان موفَّقًا إذ يضع كل مفردة موضعها المؤدي للغرض بكل يسر بعيدًا عن التعقيد.

 فالشعرية في النص الأدبي هي البحث «في طبيعة العلاقات التكوينية للنصوص الأدبية ووظائفها الاجتماعية، حيث يفضي ويكشف عن وجود بنية فردية، خاصة البنية المستخلصة من الاستعمال العادي للغة على مستويات متعددة ترسم، وتشير إلى فردية الخطاب المكتوب.

وهذا الأمر ناتج عن مقصدية في عملية الاختيار والترتيب اللغوي، ما يؤدي لأن يسمو النص في هذه الحالة على وضع اللغة العادية، وهذا ما يكسب النص أسلوبية معينة ومتميزة..»(37).

اقرأ أيضًا ملخص رواية "في قلبي أنثى عبرية" لخولة حمدي.. أحداثه واقتباساته

ثانيًا: الافتخار بالآخر

أما النوع الآخر من الفخر الذي يشكل مرتكزًا مهمًّا في مفاخرات الشاعر فهو الفخر الجماعي، الذي يقوم على التغني بمزايا الأهل والقبيلة، أي أنه يمثل الافتخار بالأنا الكبرى أو الافتخار بالآخر، الذي يقابل الذات في غنائيات الشاعر.

وكثيرًا ما نجد هذا النوع من الفخر يرتبط بالحروب الكثيرة التي تخوضها قبيلة الشاعر، فهذه الحروب هي التي ألهمت الشاعر كل ما قاله من شعر في موضوع الفخر، ولذا يعلق ابن سلام على هذا الأمر فيقول: «وإنما يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء، نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يغيرون أو يغار عليهم...». (38).

ويقوم الفخر الجماعي عند الشاعر على مجموعة من المحاور، يمكن إجمالها بما يأتي:

·  الافتخار بالنسب

ينتمي الشاعر إلى فخذ من الأوس يقال لهم النبيت، ونراه يفتخر بهم كثيرًا في أشعاره، ويذكرهم -دائمًا- إذا أراد أن يفتخر بنسبه، ويراهم أهلًا للافتخار والتغني بأمجادهم، فكل مَن ينتمي إليهم حق له أن يكون من المفتخرين؛ لأنهم أهل عزة ومنعة وشجاعة ليس لها نظير، ولذلك يصفهم في قوله(39):

       ويثرب تعلم أن النبيت       راس بيثرب ميزانها

       وبالشوط من يثرب أعبدٌ      ستهلك في الخمر أثمانها

       يهون على الأوس أثمانهم     إذا راح يخطر نشوانها

       أتتهم عرانين من مالك       سراع إلى الروع فتيانها

       وقد علموا أن ما مثلهم       حديد النبيت وأعيانها

      ونجد الشاعر مفتخرًا بأبناء قبيلته التي ينتمي إليها، فهؤلاء شجعان، يسرعون إلى الروع في كل وقت، وليس مثلهم في ذلك أحد، ومن افتخارات الشاعر في مثل هذه الأمور أن يذكر أحد أبناء قبيلته ويتباهى به وبشجاعته؛ لأنه من النبيت قومه الذين ينتمي إليهم.

    أصابت سراة م ِ الأغر سيوفنا       وغادر أولاد الإماء الحواطب(40)         

    ومنا الذي آلى ثلاثين ليلــة       عن الخمر حتى زاركم بالكتائبِ

وكثيرًا ما يذكر الشاعر قبيلته الأوس ويتغنى بأمجادها، ويعتد بكونه من هذه القبيلة القوية العريقة ذات المكانة والسيادة بين القبائل، ويتعرض للقبائل الأخرى التي تعادي قبيلته مذكرًا ببطش وجبروت قومه، وانهزام الأقوام الأخرى أمامهم.

        فما أبقت سيوف الأوس منكم       وحدّ ظباتها إلا شريدا(41)

        فلن ننفك نقتلُ ما حيينــا       رجالكم ونجعلكم عبيدا

أمجاد قوم الشاعر

وهكذا يمضي الشاعر في ذكر مآثر قومه، وكذلك من سلف منهم، فهو يذكر -أحيانًا- آباءه وأجداده ويعتقد أنه الوريث الشرعي لأمجادهم، وأنه خليق بذلك، فهو يضيف مجده إلى أمجاد السالفين من أهله الذين يأبون الذم، والركود على الهوان.

       أبى الذمّ آباء نمتني جدودهم      ومجدي لمجد الصالحين معينُ(42)

ومتى ما استعرت الحرب فإن الأوس هم المبادرون، فهم كالنار التي تأكل الهشيم؛ لأنهم يحسنون القتال والضرب، وهم الذين جعلوا رثاء القتلى سنة عند الناس لكثرة ما خلفوا من صرعى في حروبهم.

   إن بني الأوس حين تستعـر ال      حرب لكالنار تأكل الحطبـا(43)

   إن بني الأوس معشر صدقوا ال      ضرب وسنوا الإساء والندبا         

وكثيرًا ما كان يصور الأوس في الحروب كالوحوش الضواري التي تفتك بمن يتعرض لها، لشدة وطأتهم وجسارتهم في الحرب.

       متى تلقوا رجال الأوس تلقوا      لباس أساود وجلود نمر(44)  

قد كان الشاعر الجاهلي فيما عدا موضوع الفخر يعتمد في التعبير عن مكنونات عواطفه على الأسلوب التصويري، فتكون الصورة الشعرية أصلا من أصول الشعر الجاهلي، وقد تميزت بالاقتصاد الشديد في انتقاء عناصرها اللغوية ومادتها البصرية فتأتي مركزة وغامضة.

وهذا الأمر ربما متأتٍ من أن الشاعر الجاهلي لم يكن يقصد إلى بناء هذه الصورة لذاتها فحسب، وإنما كان يقصد إلى أن يعبر من خلالها عن قضاياه وأحاسيسه ومواقفه من الحياة والناس من حوله؛ لذلك يؤثر التعبير الرمزي في التعبير المباشر.

وبهذا يصبح الشعر عبر هذه الصورة بناء لغويًّا مجازيًّا حافلًا بالرموز والمعاني التي تقودنا إلى الكشف عن التوترات المختلفة، التي تحكم العالم الشعري وما يتصل به من قضايا(45).

ولكن لا يحتاج موضوع الفخر إلى الإيغال في الرمزية والمجاز، بل قد يتطلب كثيرًا من الانكشاف والوضوح لحاجة الشاعر الملحة إلى التواصل مع الجمهور، الذي ينتظر منه أن يقول ما يُفهم لا أن يشغل فكره في أن يفهم ما يقال.

ذلك أن الهدف البعيد للشاعر هو تحقيق الانسجام بينه وبين الآخرين، فهو بذلك «إنما يعبر عن الهدف الذي تسعى الجماعة نفسها إليه، ولا يتحقق الانسجام بين الجماعة والحياة إلا من خلال الموقف أو العقيدة المشتركة»(46).

·  الافتخار بقوة العشيرة

يرتبط بافتخار الشاعر بنسبه افتخاره بقوة عشيرته، هذه القوة التي تجعل منهم أسيادًا يُخشى بطشهم ويُرهب جانبهم، ويمثل افتخاره بقوة افتخارًا بقوته الشخصية؛ لأنه جزء منهم، «والقبيلة هي أول أركان المجتمع الجاهلي، وأهل الشاعر العربي وقومه، بها يفخر، وعنها يدافع، ولأجلها يموت راضيًا سعيدًا.

والسبب في ذلك هو الرباط الذي يشده إليها، وهو رباط الدم والنسب الذي يكفي وحده لهذا التفاني وتلك التضحية، وفكرة الارتباط في النسب والدم تعني بلا شك وجود أب واحد ينتمي إليه كل أفراد القبيلة.

فهم إذن أسرة واحدة، تشعر بشعور واحد، وتدافع عن هدف واحد، وهذا الشعور الموحد بين أفراد القبيلة -والذي جاء نتيجة اتحاد الدم والنسب- هو ما يطلق عليه اسم العصبية القبلية»(47)، وقيس بن الخطيم يتكلم بلسان قومه، فهو يتكلم نيابة عنهم كأنه هو هم جميعًا، وكأنهم جميعًا هو ذاته، مثلما في قوله(48):

    وإنا إذا ما ممتروا الحرب بلحوا      نقيم بأسباد العرين لواءهــا

    ونلقحها مبسورة ضرزنيــة       بأسيافنا حتى ندك لواءهــا

    وإنا منعنا في بعاث نساءنــا       وما منعت م ِ المخزيات نساءها

نلحظ كيف أن الشاعر ينطق بلسان قومه كأنه يفتخر بنفسه أو يفتخر بقوته الشخصية، أو كأنهم جميعًا يفتخرون به، فقوته مستمدة من قوتهم.

وهذا يدل على تداخل واضح بين الفخر الفردي والفخر الجماعي عند الشاعر، وكأنما صوت الأنا عنده تحول إلى الآخر الذي يمثل الأنا الكبرى، ويمكن أن نرى ذلك بصورة أدق في مقطوعته الآتية.

    ولاقى الشقاء لدى حربنا      وحيّ وعوف وإخوانها(49)

    رددنا الكتيبة مفلولــة      بها أفنها وبها ذانهــا

    وقد علموا أن متى ننبعث      على مثلها تذك نيرانها

أسلوب الجمع عند الشاعر

كأن الشاعر يتكلم عن نفسه بصيغة الجمع، فيستخدم «نا» المتكلمين ليشعرنا بتلاحم كبير بين أفراد قومه، فيبدو لمن يستمع أنه أمام شخص واحد ولكنه هائل القوة والقدرة، وهذا أسلوب الشاعر دائمًا عند الحديث عن مثل هذه القوة القاهرة التي يتمتع بها أبناء جلدته، ومثل ذلك في قوله (50):

        صبحنا بها الآطام حول مزاحـــم      قوانس أولى بيضنا كالكواكبِ

        لو أنك تلقي حنضلا فوق بيضنـا      تدحرج عن ذي سامة المتقاربِ

        إذا ما فررنا كان أسوا فرارنــا      صدود الخدود وازورار المناكبِ

        صدود الخدود والقنا متشاجــر      ولا تبرح الأقدام عند التضاربِ

        إذا قصرت أسيافنا كان وصلهـا      خطانا إلى أعدائنا فنضــاربِ

 يمكن بوضوح ملاحظة استخدامه للضمير «نا» في كثير من الأفعال والأسماء التي استعملها في تركيب أبياته من مثل «صبحنا، بيضنا، فررنا، فرارنا، أسيافنا، خطانا، أعدائنا».

فهو إذن يفتخر بنفسه وبقومه على حد سواء، ولا يخفى ما في الأبيات من عمق التصوير الدال على قوة هائلة لدى عشيرة قيس بن الخطيم، تجعله -دائمًا- يظهرهم بهذا المظهر البطولي الخارق.

ويلحظ في كل ما تقدم من مقطوعات الشاعر حرصه الدقيق في الخطاب الموجه أن يكون منسجمًا مع ما يعتمل في نفس المتلقي.

فهو يريد أن تبقى هذه الأمور التي يذكرها عالقة -إلى الأبد- في ذهن متلقيها لا سيما أبناء قومه المساندين له، فيختار لها أفخم العبارات وأجزل المعاني بعيدًا عن الغموض المفسد، وهذا يعبر عن تلاحم واضح بين الشاعر المبدع وبين الجمهور المتلقي، وفيه دلالة أيضًا على تأثير كبير للمتلقي على الشاعر، «إذ لم يكن الشاعر الجاهلي -في هذا المنظور- ينشئ الشعر لنفسه بل لغيره، لمن يسمعه لكي يتأثر به، وحينها تقاس شاعرية الشاعر بقدرته على الابتكار الذي يؤثر في نفس السامع»(51).

اقرأ أيضًا ملخص رواية ذات أمس ومعلومات عن الكاتبة صابرين الديب

·  الافتخار بالأيام والحروب

ومن أساليب الشاعر في الافتخار الجماعي ذكره لما مضى من أيام وأحداث سلفت من تاريخ قبيلته الحافل بالمعارك والحروب، فيستظهرها ويشيد بها، ويذكِّر بها من كان ناسيًا أو متناسيًا، لتبقى دائمًا عالقة في الذاكرة.

ونراه في أبياته التالية يطلب من الناس أن يسألوا شخصًا اسمه «عبدالله» عمَّا حلَّ بقومه لما حاربوهم، وكيف فرقوا جموعهم، في مكان يدعى «قورى»، وتركوهم صرعى لتشبع من أجسادهم وحوش قورى، وقد حدث ذلك في يوم مشهور من أيامهم هو يوم بعاث.

 سل المرء عبدالله إذ فرّ هل رأى    كتائبنا في الحرب كيف مصاعها(52)

 ولو قام لم يلق الأحبة بعدها      ولاقى أسودا هصرها ودفاعها

 ونحن هزمنا جمعكم بكتيبة       تضاءل منها حزن قورى وقاعها

 إذا همّ جمعٌ بانصراف تعطّفوا     تعطف ورد الخمس أطت رباعها

 تركنا بعاثا يوم ذلك منهم       وقورى على رغم ٍ شباعا ضباعها     

      إضافة إلى يوم بعاث يذكّرنا الشاعر بيوم آخر من أيام قبيلته، هو يوم الحديقة الذي كانت له فيه بطولات، إلا أن يوم بعاث كان كل أبناء عشيرته فيه أبطالًا يجردون السيوف من أغمادها بيضاء ناصعة، ويعيدونها وقد زال عنها البياض وغدت حمراء ناحلة لكثرة ما تعرضت له من الطعن والضراب.

       أجالدهم يوم الحديقة حاسرًا     كأن يدي بالسيف مخراق لاعبِ(53)

       ويوم بعاث أسلمتنا سيوفنا       إلى نسب في جذم غسان ثاقبِ

       يعرين بيضا حين نلقى عدونا      ويغمدن حمرا ناحلات المضاربِ

       أطاعت بني عوف أميرا نهاهم       عن السلم حتى كان أول واصبِ

       أويت لعوف إذ تقول نساؤهم       ويرمين دفعا ليتنا لم نحاربِ

       صبحناهم شهباء يبرق بيضها      تبين خلاخيل النساء الهواربِ

وكل مَن يستمع لما قاله الشاعر عن يوم بعاث يعتقد بحضور الشاعر الفارس في ذلك اليوم، وبدور مميز كان له فيه، لكثرة ما قاله من شعر في تمجيد قبيلته وتخليد ذلك اليوم، الذي وصفه وصفًا تفصيليًّا في مجموعة كبيرة من أشعاره، ولكنه يكشف لنا فجأة عن أنه لم يكن ممن حضروا يوم بعاث، وأن عشيرته كفته مشقة حضوره.

        فأبنا إلى أبنائنا ونســــائنا             وما من تركنا في بعاث بآئب(54)

        وغيّبتُ عن يوم كفتني عشيرتي        ويوم بعاث كان يوم التغالبِ

أعداء القبيلة في القصيدة

وأحيانًا يكتفي الشاعر بذكر أسماء القبائل التي حاربوها، ويخبرنا أن الغلبة كانت لهم، ويصف لنا كيف كانت الواقعة، وكيف قضوا على أعدائهم وجرعوهم كؤوس المنايا، فهم أخوة حرب لا تهدأ لهم نائرة.

       سقينا بالفضاء كؤوس حتف ٍ      بني عوف وإخوتهم يزيدا(55)

       لقيناهم بكل أُخيّ حــرب ٍ        يقود وراءه جمعا عتيدا

وأحيانا يذكّر الشاعر أعداءه بمكان معين حدثت فيه معركة من معاركهم الكثيرة، فيبعث برسالة إلى أحد أعدائه يطلب منه استذكار ذلك اليوم في ذلك المكان المعين الذي نكلوا بهم فيه، وتركوهم ما بين قتيل ومنهزم، ومن الأماكن التي يذكرها الشاعر «الردم»، إذ أوقعوا بالخزرج في صباح مبكر هزيمة نكراء.

       ألا أبلغا ذا الخزرجي رســالة       رسالة حق لســت فيها مفندا(56)

       فإنا تركناكم لدى الردم غدوة        فريقين مقتولا به ومطــــردا

       صبحناكم منا به كل فــارس ٍ       كريم النثا يحمي الذمار ليحمدا

       أتذكر أمرا لم تنــــله وإنما       تناولَ سجْل الحرب من كان أنجدا

ما يلحظ في هذه الأبيات وما سبقها أن الشاعر لا ينطلق إلا من حدود النفس، ولا يخرج بعيدًا عن آفاق بيئته التي يحيا في محيطها وينتقل بين مناظرها ومشاهدها، فلا نجده يرسم إلا ما تقع عليه عينه، ولا يحس إلا بما يدفعه إليه إدراكه وتفكيره.

لذلك نراه لا ينشغل إلا بما هو حاضر بين يديه من معان وصور؛ لأنها ذاتها ما يمكن أن يلحظه الناس من حوله، فلا ينطلقون إلى شيء أبعد من مداركهم، ولكن يبقى تأثير الشاعر حاضرًا في كل الأحوال؛ لأنه ينطق بما يعجز على الآخرين أن ينطقوا به، ذلك أن قيمة العمل الفني إنما تتحدد بالأثر الفعال الذي يتركه في نفوس الناس، أيًّا كان الموضوع الذي يتحدث فيه(57).

·  الافتخار بالعزة والمجد

من الطبيعي بعد هذا كله أن يفتخر الشاعر بما نالته عشيرته من العزة والمجد؛ لأنهم عتاة جبابرة أقوياء في مواجهة أعدائهم في الوقائع المختلفة.

فلا بد أن يكون لهم تأريخ مجيد يذكره الشاعر في مواطن كثيرة ويفتخر به، وقد تمثل هذا الافتخار في أمثلة كثيرة من شعره تتخذ عدة معان مختلفة كما في قوله(58):

      إن الفضاء لنا فلا تمشوا به       أبدا بعاليه ولا بذنوبِ

في البيت يذكر أنهم ملكوا أقطاب الأرض، فهي حق لهم ما انخفض منها وما ارتفع، وعلى الناس ألا يمشوا بها إلا بإمرتهم.

ومثل هذا المعنى يذكره بصورة مختلفة، وذلك بأن يصور أعداءه عاجزين عن منعهم عن أي مكان يريدون الوصول إليه، فلا أحد في الأرض قادر على صدهم أينما أرادوا أو اتجهوا إلا إذا ركبوا ظهور خيولهم وفروا.

       فلم تمنعوا منا مكــانا نريده       لكم محرزا إلا ظهور المشاربِ(59)

       فهلا لدى الحرب العوان صبرتم       لوقعتنا والبأس صعب المراكبِ    

لا أحد قادر على أن يصمد أمام هذه القوة القاهرة، وعلى ذلك لا يمكن أن يكون الحديث عنهم إلا أنهم قوم يسودون الناس متى ما أرادوا السيادة عليهم، وأينما أرادوها، فلا صادَّ ولا رادَّ لهم.

     فليس علينا قالة غير أننا      نسود ونكفي كل ذلك نفعلُ(60)

اقرأ أيضًا تعرف على قصة شاعر مصري وشاعرة إيرانية وقعا في الحب بالمراسلة

فرار الأعداء في الحروب

    ومن الصور التي يبتكرها الشاعر في تصوير مجدهم الخالد أن يرى جميع الأقوام تفر أمامهم، وتأبى المقاومة ضد جموعهم الزاحفة في أرض كل معركة، أما قومه فيأبون الاستسلام ولا يطلبون إلا التقدم والنصر.

       ويأبى جمعكم إلا فرارا        ويأبى جمعنا إلا ورودا(61)

ويُحكى أن هذا البيت قاله بعد يوم بعاث، إذ يروى أن الغلبة كانت فيه ابتداء للخزرج حين فرّ الأوس منهزمين، لكن زعيمهم حضير الكتائب الأشهلي أبى الفرار وطعن ساقه برمح، واستصرخ الأوس الثبات في المعركة.

فلما رأت الأوس ذلك جاشت حميتها ورجعت إلى القتال، فرجحت كفتها في الحرب، وأكثرت قتل الخزرج(62)، وعلى هذا فهم يستهينون بالموت ولا يحفلون به.

بل هم يبحثون عنه بحثًا؛ لأن الحياة -في نظرهم- بلا مجد لا تعد حياة، وبسبب هذا الاندفاع الهائل في كل الأراضين تجدهم يأخذون بكل موقع منها بنصيب.

       فنحن النازلون على المنايا      ونحن الآخذون بكل ثغر(63)

وهكذا يتحدث -دائمًا- عن مجد قومه خلفًا عن سلف، فأمجادهم اليوم إنما هي سليلة أمجاد الآباء والأجداد، ولم يكن حين يحدثنا عن هذه المآثر ملفقًا أو كاذبًا، فإنه يقسم أنه لم يذكر من أمجاد قومه إلا ما حصل.

        أقسمتُ لولا الذي زعمتْ وما      خبرتُ قوما عن مجدهم كذبا(64)

فمجدهم اليوم إنما هو امتداد لذلك المجد التليد الذي توارثوه، وقد علمت بذلك كل قبائل (معد)، فإنهم على يقين أن قوم قيس بن الخطيم لم يُغلبوا ولم يضع لهم وتر أبدًا، وهكذا يحق لشاعرهم أن يزهو ويفتخر بما يتحقق لقومه من بطولات وأمجاد على مر السنين.

      ورثنا المجد قد علمت معد        فلم نُغلب ولم نُسبق بوترِ(65)

وإن كان بين القبائل مَن له شيء من المجد على شاكلتهم فليس عسيرًا عليهم أن يستبيحوا مجد هذه القبيلة، وينزلوها من علياء سنامها.

         وقوما أبحنا حمى مجدهم       وكانوا لمن يعتريهم سناما(66)

هذا التحليق المنقطع النظير في أجواء الفخر والإشادة بالقبيلة لم يكن ليتسنى للشاعر لو لم يجد الأرضية المناسبة لذلك، فقد شجعه تاريخ قبيلته الحافل بالوقائع وانتصاراتها الكثيرة أن يكون السجل الحافظ لذلك التاريخ الزاخر.

الأنا في القصيدة الشعرية

وتبقى العلاقة المميزة لجو القصيدة العام بين الشاعر الذي يمثل «الأنا» في تكوين القصيدة، والجمهور المستمع المعني بكل ما يدور في القصيدة الذي يعبر عنه الشاعر بـ«نحن»، فمن خلال هذه العلاقة بين «الأنا» و«نحن» ينشأ الإبداع الشعري ويظهر إلى النور.

ولكن «حالة نحن قد تتصدع، فينجم خلاف عميق بيننا وبين أفراد الجماعة التي نتكامل معها، فعندئذ يتحول الموقف إلى أنا والآخرين بدلًا من نحن»(67).

ولهذا يلجأ الشاعر إلى تفكيك الحواجز بين الأنا ونحن، محاولة منه في إعادة التوازن مع مجتمعه المتلقي لحاجته إليه؛ لذا هو يبدع لإنهاء هذا الصدع(68)، وهكذا نجد أن «للمتلقي حضورًا قويًّا داخل نظام البيان العربي.

وقد وجَّه هذا المتلقي طبيعة هذا النظام بسبب تداخل العوامل الأدبية والفكرية وتعاونها في إيجاده»(69).

إن النظام القبلي قد فرض على الشاعر ألا يقتنع بذاته، بل لا بد من وجود توافق واضح بينه وبين قبيلته، فالشاعر يمثل القبيلة وهو لسان حالها؛ لذلك تفرح به وتحتفل وتقدم له التهاني والتقدير بمجرد نبوغه، فهو ينظم متوجهًا إليهم أما مادحًا أو مفتخرًا أو مدافعًا(70).

وبإمكاننا أن نلحظ أنه عند موازنة شعر قيس بن الخطيم بشعر غيره ممن اشتهروا بموضوع الفخر كالفرزدق مثلًا.

سنجد أن ابن الخطيم كان ينطلق في فخره من جانب نفسي ذاتي لم يمله عليه سوى وازعه الأخلاقي، في وجوب محاماته عن قبيلته التي كانت تعده منبرها الإعلامي، في حين لم يكن الفرزدق ينطلق إلا من سباق فني أوجبه عليه تهاجيه الدائم مع جرير.

ولم يكن ليبرع في الفخر لو لم يجد مادة وفيرة من تاريخ قومه، أعانته على علو كعبه في هذا الغرض تحديدًا، ومع ذلك «فإن التزام الشاعر بموقف فكري لا يضير الشعر ذاته في شيء أو يناقض طبيعته، بل هو -على العكس- يضمن له الفاعلية والأهمية، ويحقق للشاعر الوصف القديم أنه بني قومه، وطفلهم وخادمهم في آن واحد»(71).

وبعد فقد شكَّل الفخر في ديوان الشاعر علامة فارقة دلَّت على توجه الشاعر العام، ففي شعره نجد أن الفخر يمثل المساحة الأوسع والأكبر، ويتفوق الفخر على غيره من موضوعات الشعر عند الشاعر الذي وجد في نفسه القوة والكفاءة والخصال الكريمة التي تجعله حَرِيًّا أن يصنع من نفسه عنوانًا للافتخار في مجموعة كبيرة من قصائده.

إلا أنه لم يستأثر بالمفاخر لذاته ولم ير لنفسه شأنًا دون قبيلته، فانقسم الفخر في شعره بين الذات التي تمثل كل ما امتلكه من كرم وشجاعة وجمال وأخلاق وغيرها من المكارم، وبين الآخر المتمثل بقبيلته التي أصبح لسان حالها المعبر عن قوتها وأصالتها وتأريخها ومجدها.

أهمية اتصال الشاعر بالقبيلة

وعلى الرغم من انقسام فخره بين الذاتية والجماعية؛ فإننا نراه يجد نفسه في الثانية أكثر، ففيها نجد اتصال الشاعر بقبيلته غير محدود، ولعله يعتقد في قرارة نفسه أن افتخاره الذاتي جزء من افتخاره القبلي، وإن افتخاره بقبيلته هو جزء من افتخاره الشخصي.

لم يكن قيس بن الخطيم سبَّاقًا في فخره، بل إنه شكَّل بأشعاره الفخرية امتدادًا واضحًا لشاعرية شعراء العصر الجاهلي، الذين عرفوا باعتدادهم بقومهم وتمسكهم بالقبيلة، التي تمثل الملاذ والقوة والسلطة للرجل الجاهلي.

إلا أن ما يميز الشاعر أنه كان صوتًا صاخبًا لمآثر قومه وسجلًا زاخرًا لتأريخهم وأمجادهم، فأصبح بذلك أبرز شعراء الفخر في شعرنا العربي؛ لذا وجب أن يمنح فخر الشاعر خصوصية تميزه عن غيره من شعراء عصره، بسبب تركيزه على هذا الغرض وانشغاله به، ما جعله متفوقًا في هذا الغرض دون سواه.

وقد كان تعامل الباحثين والدارسين مع غرض الفخر قد جاء بتحفظ شديد، إذ لعله يحم شيئًا من التكلف والمبالغة، فالشاعر دائمًا ما يحاول الوصول إلى أبلغ المعاني التي تجعل من فخره يتفوق على فخر الآخرين، ما يجعل القصيدة -في هذه الحالة- تفقد صدق الإحساس وحقيقة التجربة

مثل أن موضوع الفخر يتجنب اللغة التي تبنى بناءً مجازيًّا، فتكون فيها الصورة تراكمية تحتاج إلى وقفة وتأمل وتأويل، إنما يجنح الشاعر إلى الخطاب المباشر الذي يستخدم اللفظ المعبر تعبيرًا مباشرًا في محله، والشاعر في هذا إنما يعبر عن قضيته وأحاسيسه وموقفه تجاه مَن يتقدم إليهم بقصيدته.

ويجب ألا نغفل هذا الارتباط الوثيق بين الشاعر وبين جمهوره، فللجمهور تأثير واضح وكبير على الشاعر، فهو يراعي المستمعين مراعاة تامة، وهو منشغل الفكر في التواصل معهم كي لا يأتي بما يستعصي على أفهامهم.

لا سيما أن القصيدة هي البضاعة التي يشتد عليها الطلب في ذلك الوقت، والحاجة التي لا يمكن الاستغناء عنها طويلًا، فهو مُطالَب دائمًا بعدم الخروج على ما يرتضي منه الجمهور، وأن يأتي بما ينتظرون أن يأتي به مسبقًا، وبهذا تتحدد العلاقة بينهما على أن ما يقوله يكون مطابقًا لما في أذهانهم سلفًا.

-------------------------------

[1] انظر العمدة: 1 /121

[2] انظر العصر الجاهلي /195

[3] انظر النص الأدبي تحليله وبناؤه مدخل إجرائي ( د إبراهيم خليل ) /13

[4] انظر أيام العرب وأثرها في الشعر الجاهلي /118

[5] انظر معجم الشعراء /196

[6] انظر أمالي اليزيدي /79

[7] انظر معجم الشعراء /196

[8] انظر الرثاء في الشعر الجاهلي وصدر الإسلام /75

[9] انظر ديوانه /181-182

[10] انظر ديوانه / 225

[11] انظر ديوانه / 128 -129

[12] انظر ديوانه / 130

[13] انظر ديوانه / 157 -158

[14] انظر ديوانه / 220 -221

[15] انظر الرثاء في الشعر الجاهلي وصدر الإسلام /75

[16] انظر الرثاء في الشعر الجاهلي وصدر الإسلام /75

[17] انظر نقد الشعر /29

[18] انظر ديوانه / 43 -50

[19] انظر الرثاء في الشعر الجاهلي وصدر الإسلام /38

[20] انظر ديوانه / 81 -82

[21] انظر ديوانه / 157

[22] انظر ديوانه / 166

[23] انظر معجم الشعراء /196

[24] انظر الأغاني 3/9

[25] انظر ديوانه / 42

[26] انظر ديوانه / 80

[27] انظر ديوانه / 134

[28] انظر ديوانه / 145 -146

[29] انظر ديوانه / 111 -113

[30] انظر ديوانه / 128

[31] انظر ديوانه / 80 -81

[32] انظر ديوانه / 129 -130

[33] انظر ديوانه / 154 -155

[34] انظر ديوانه / 163 -164

[35] انظر ديوانه / 165

[36] انظر ديوانه / 215

[37] انظر شعرية النص عند الجواهري دراسة تحليلية /10

[38] انظر طبقات فحول الشعراء /217

[39] انظر ديوانه / 72 - 73

[40] انظر ديوانه / 91

[41] انظر ديوانه / 149

[42] انظر ديوانه / 166

[43] انظر ديوانه / 176- 177

[44] انظر ديوانه / 183

[45] انظر الشعر الجاهلي قضاياه الفنية والموضوعية :187 - 188

[46] انظر الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية /394

[47] انظر الرثاء في الشعر الجاهلي

[48] انظر ديوانه / 50 -51

[49] انظر ديوانه / 71 - 72

[50] انظر ديوانه / 86 -88

[51] انظر الشعرية العربية (أدونيس) /22

[52] انظر ديوانه / 142 _144

[53] انظر ديوانه / 88 -91

[54] انظر ديوانه / 96

[55] انظر ديوانه / 147

[56] انظر ديوانه / 216 -217

[57] انظر الشعر العربي المعاصر /375

[58] انظر ديوانه / 61

[59] انظر ديوانه / 93

[60] انظر ديوانه / 139

[61] انظر ديوانه / 149

[62] انظر أيام العرب وأثرها في الشعر الجاهلي / 97

[63] انظر ديوانه / 187

[64] انظر ديوانه / 172

[65] انظر ديوانه / 183

[66] انظر ديوانه / 214

[67] انظر الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر /123

[68] انظر الإبداع والتلقي في الشعر الجاهلي /190

[69] انظر استقبال النص عند العرب (د محمد رضا مبارك) /211

[70] انظر الإبداع والتلقي في الشعر الجاهلي /191

[71] انظر الشعر العربي المعاصر /395

اقرأ أيضًا

-الحب والمرأة في شعر إيليا أبو ماضي

-خمس مساجلات شعرية جميلة من الزوامل اليمنية التراثية

 

 

 

 

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

هل تحب القراءة؟ كن على اطلاع دائم بآخر الأخبار من خلال الانضمام مجاناً إلى نشرة جوَّك الإلكترونية

مقالات ذات صلة
نوفمبر 30, 2023, 12:51 م - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 30, 2023, 12:31 م - محيي الدين ع محمد
نوفمبر 30, 2023, 10:24 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 29, 2023, 12:16 م - دكار مجدولين
نوفمبر 29, 2023, 12:08 م - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 29, 2023, 8:46 ص - عبدالحليم عبدالرحمن
نوفمبر 29, 2023, 8:35 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 28, 2023, 8:40 ص - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 27, 2023, 2:25 م - دكار مجدولين
نوفمبر 27, 2023, 11:03 ص - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 26, 2023, 2:03 م - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 26, 2023, 11:15 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 26, 2023, 10:24 ص - عبدالخالق كلاليب
نوفمبر 26, 2023, 6:40 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 25, 2023, 1:02 م - اسامه سراج خالد
نوفمبر 23, 2023, 3:57 م - عبدالله مصطفى المساوى
نوفمبر 22, 2023, 1:34 م - دكار مجدولين
نوفمبر 22, 2023, 11:38 ص - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 21, 2023, 5:58 م - محمد رشيد ابو شقير
نوفمبر 21, 2023, 8:23 ص - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 20, 2023, 12:48 م - دكار مجدولين
نوفمبر 20, 2023, 12:37 م - ميساء محمد ديب وهبة
نوفمبر 20, 2023, 11:04 ص - جوَّك آداب
نوفمبر 20, 2023, 9:57 ص - جوَّك آداب
نوفمبر 20, 2023, 9:34 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 20, 2023, 8:27 ص - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 19, 2023, 2:59 م - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 19, 2023, 12:45 م - دكار مجدولين
نوفمبر 19, 2023, 10:46 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 19, 2023, 10:21 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 19, 2023, 6:36 ص - سفيان صابر الشاوش
نوفمبر 19, 2023, 6:27 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 18, 2023, 12:25 م - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 17, 2023, 10:20 ص - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 16, 2023, 6:28 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 15, 2023, 11:56 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 15, 2023, 11:05 ص - كاتبة
نوفمبر 15, 2023, 10:45 ص - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 14, 2023, 10:03 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 14, 2023, 9:16 ص - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 14, 2023, 5:32 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 13, 2023, 9:49 ص - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 13, 2023, 9:43 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 13, 2023, 6:21 ص - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 12, 2023, 1:01 م - عبدالحليم ماهاما دادولا عيدالرحمن
نوفمبر 12, 2023, 12:43 م - جوَّك آداب
نوفمبر 12, 2023, 9:25 ص - عبدالحليم ماهاما دادولا عيدالرحمن
نوفمبر 12, 2023, 5:50 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 11, 2023, 4:56 م - عبدالحليم ماهاما دادولا عيدالرحمن
نوفمبر 11, 2023, 3:35 م - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 11, 2023, 10:02 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 11, 2023, 9:35 ص - جوَّك آداب
نوفمبر 11, 2023, 8:57 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 11, 2023, 7:16 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 10, 2023, 1:27 م - دكار مجدولين
نوفمبر 10, 2023, 1:08 م - دكار مجدولين
نوفمبر 10, 2023, 12:51 م - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 9, 2023, 8:04 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 9, 2023, 4:58 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 8, 2023, 8:18 م - دكار مجدولين
نوفمبر 8, 2023, 11:56 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 8, 2023, 10:53 ص - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 8, 2023, 10:37 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 8, 2023, 4:27 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 7, 2023, 10:44 ص - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 7, 2023, 4:31 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 6, 2023, 10:52 ص - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 6, 2023, 5:21 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 5, 2023, 10:21 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 5, 2023, 7:30 ص - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 5, 2023, 6:07 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 4, 2023, 2:02 م - دكار مجدولين
نوفمبر 4, 2023, 1:17 م - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 4, 2023, 6:32 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 4, 2023, 5:52 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 3, 2023, 9:48 ص - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 3, 2023, 5:26 ص - دكار مجدولين
نوفمبر 2, 2023, 10:07 ص - سيد علي عبد الرشيد
نبذة عن الكاتب