كلمة ترافقها الابتسامة والضحك. ذلك ما قد يجيب به كثير من الناس إن سألتهم عن معنى الهزلية. ولكن صدقًا ما الهزلية؟
- قد يسأل أحدهم: أليس ذلك ما قد ذكرت؟
= فأجيبه: ليس بالمعنى الدقيق، بل قل إن الأصل به العبث والسخف الذي يضحك منه المرء ويحبه أو ذلك الذي يبغضه.
- ولمَ قد يبغض المرء الفكاهة والهزلية؟
= ليست كل الهزلية مضحكة، بل إن أغلب الهزلية في قرننا هذا ما هي إلا الهزلية التي تؤسف الإنسان ذا العقل السليم عن الهوى والتدليس، والتي لا يرتضي بها إلا مختل القلب والعقل.
- ما لي أراك تبالغ بقولك هذا، فما تقصد بذلك؟
= لأن في عصرنا زادت الهزلية عن حدها، حتى نُكست فطرة الإنسان فصار عقل الإنسان المعاصر أعجز عن تقرير الحقائق وإتقان الحكم. لذا ففي عصرنا هذا البريء مجرم وإن ثبتت براءته، والمجرم صدِّيق وقديس وإن كان غارقًا بدم الآخرين، ولكن الله يعلم ما ينكره أهل الأرض. فهذا ما يناقض كل ما قد يؤمن به أي إنسان -إن كان إنسانًا- فإن كنت ذا مرجعية دينية فتدبر قوله تعالى: (وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) الإسراء آية33، ولكل أمة نصيبها من نصوص التحريم مهما اختلفت.
وإن كانت مرجعيتك هي القانون والدساتير فدائمًا جزاؤها القصاص أو السجن المؤبد أو المشدد. أضف إلى ذلك الضمير الإنساني وإن كان أضعفهم رادعًا وأسهلهم في الاحتيال عليه. ولكن كما ترى ما يُنشر من إبادات حول العالم وترى الجناة في كرسي القضاء.
-وكيف يصمت العالم على ذلك رغم اختلافهم في كل شيء؟ ألم يجدوا غير ذلك ليتفقوا عليه؟ أهم عميان؟!
= لا بل يتعامون عن كل حقيقة تلوح كالشمس في الفلك. فمن لا يريد الإبصار ويغلق عينيه وإن صفت ألف شمس أمامه سيدير لها ظهره أو يجتزئها، وذلك أضل سبيلًا من أن ينكرها جملة واحدة. وما ذلك غريبًا عنهم بل قصة تتكرر دون تغيير، ويصعق لها الناس في كل مرة يرونها كأنها المرة الأولى التي تحدث أمامهم.
فكم من مرة وُصف أناس بكل زميم حتى يفرض أمامهم الواقع فيكفوا عنه كأنما لم يكن بالأمس شيء، كنيلسون مانديلا أو مهاتما غاندي، بالأمس حملا لقب المجرم وها هما اليوم يحملان جائزة نوبل للسلام.
- وما الذي أمكنهما من ذلك؟
= صارت الكلمات رهن القوي وملجأ المحتاج، لا يُسمع إلا من يملك الصوت الأعلى، وليس بالضرورة أن يكون صاحب الحق؛ فهو -إن لم يمتلك القوة لفرض صوته- سيصم الناس آذانهم عنه، ويقبلون على صاحب الباطل والبهتان -ولكنه استوفى شرط القوة- يقبلون عليه بألسنتهم وقلوبهم.
فهم جناة فيما بينهم ولا تحسب في قضائهم عدلًا ولا رحمة. وإن نطق أحد شهادة حق أخرسوه وأدانوه بالباطل كأنما اصطلحوا العمى بينهم. فالمبصر عندهم منبوذ كأنما فرضوا الصمم علينا، ولكن كل الآذان مصغية.
- وهل أصبحت الأمم في غفلة أم قُطعت ألسنتهم؟ ما لهم في صمت مميت ولمَ لا تُحشد الأمم بجيوش من العتاد والأسنة؟
= ألا تعي أن تلك الأمم تعي ذلك، خاصة الأمم القوية التي لا تؤمن بالله بل بالمادية. إنها تعرف أن مصيرها كالأمم السابقة مآلها الزوال، فهي تسعى لتقييد الأمم الأخرى وجرفها في قاع الهزلية، وأن تتقوقع في صَدفة الغفلة. وحين يأتي سقوطها ستعيد شتات نفسها في لحظة تغفل فيها ألم الغير كأنها قد استعمرتهم دونما حرب، فتجدد تلك الأمم قوتها، وبهذا يعيد التاريخ نفسه. وذلك هو قاع الهزلية.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.