أصوم وأصلي، أقرأ القرآن وأزكي، ولكن ضيق صدري لا يزال كما هو، غارق في بحر من النعم وما أظن إلا أن البركة قد نزعت منها فما عدت أتلذذ بها، حتى النوم لم أعد أجد له حلاوة، أشعر أني عاجز!
«يا بني، لقد فكرت في ما قلته جيدًا، وما أظنه إلا ذنب قد اقترفته فسبب لك ما أنت فيه»...
بدأ كلام الشيخ رضوان يتردد في عقلي باهتمام، ولكن ما عساه يكون هذا الذنب؟
بدأت أسبح في بحر أفكاري الواسع علِّي أجد يابسة فأهرع إليها قبل أن تلتهمني وحوش البحر فتقضي عليَّ، في حين يرن صوت الشيخ وهو يخطب كالصدى على أذني.
أحسست بالموج يضربني من كل الجهات، وبشيء يسحبني إلى الأسفل بقوة، تيقنت بأني هالك لا محالة، لولا تلك اليد التي انتزعتني من بين الموجات الغاضبة، لتبشرني بأن اليابسة قد لاحت من الأفق.
«ولهذا يمكن لقطع الرحم أن يكون سببًا في قلة التوفيق ومحق البركة عن الأرزاق.».
فما لبثت هذه الجملة تتكرر في رأسي كطفل عبث بشريط قديم، فما عاد الشريط يكرر إلا هذه الجملة.
لم أتوقع أبدًا أن يكون هذا سبب الغم الذي أنا فيه، وما هي إلا ساعة حتى وجدت نفسي فعلًا أمام منزل جدي ولا أعلم كيف.
ولست أدري أمن حسن حظي أم سوئه أني وجدته هو الآخر على باب المنزل!
أكان ينتظرني أم أنها محض صدفة؟
الله وحده يعلم بكمِّ المشاعر التي راودتني في تلك اللحظة.. ما بين شوق وخوف من ألَّا يقبل اعتذاري، ومشاعر أخرى كثيرة لم أستطع فهمها، لا أذكر آخر مرة التقينا فيها، ولكن ما أذكره أنها كانت منذ زمن بعيد للغاية.
رسم الدهر لوحته على وجهه بإتقان، لم يعد ذاك الجد الصارم الذي عهدته ذاته، أو لربما في هذه اللحظة بالذات لم يعد هو.
كان يحاول بقدر الإمكان أن يحافظ على رباطة جأشه أمامي، ولكني لحظت ارتجاف عصاه بالفعل، في حين يحدق بي بنظرة تحمل كثيرًا من المعاني في دواخلها، ولا أنكر فأنأ لم أكن أقل منه ارتجافًا.
أحسست وكأن أثقالًا قد ربطت بقدمي، في حين أسير نحوه ولا يزال في ذات هيئته المتزعزعة.
«لم أتوقع أنك لا تزال تذكر أن لك جدًّا حي يرزق»!
وأنا لم أتوقع بأن يصفعني بهكذا كلمات منذ البدء! ألجم لساني، وأحسست بقبضة محرقة تعتصر قلبي، له الحق كل الحق في أن يعاتبني، بل حتى لو أراد ضربي بهذه العصا الغليظة لست أمانع ذلك، فأنا قد أخطأت في حقه..
أخطأت في تصديقي الاتهامات الواهية من غير شاهد ولا دليل، أخطأت في ظلمي وعدم استماعي له وفي كفراني للعشير، في نسياني لكل تلك السنوات الماضية والأيام الحانية التي قضيتها معه.
كيف جرؤت على التصديق أن الشخص الذي رباني بعد وفاة والدي وبذل كل ما لديه لينشئني أفضل تنشئة قد يستغلني ليحقق مطالبه الخاصة ورغباته، أستحقر نفسي كلما تذكرت ذلك.
«آسف» هي الكلمة الوحيدة التي استطعت إخراجها من بين كل هذه الأعاصير التي تعصف بداخلي، ولكن شد انتباهي تلك التنهيدة الحارة التي أطلقها جدي، وطيف الابتسامة الحانية الذي بدأ بالارتسام على وجهه:
-«أتعلم يا وليد، لطالما كنت خائفًا وقلقًا عليك من الخروج إلى هذا العالم الخبيث، ولكنك فسرت قلقي بطريقة مختلفة تمامًا عما كان عليه.. لا أعلم ما الذي دفعك لذلك، ولكن ما أعلمه أني حقًّا فخور بك الآن، فها أنت ذا وقد أصبحت رجلًا يذيع صيته في كل البلاد، وأنا سعيد جدًّا بأنك قد عدت إلى رشدك أخيرًا».
استلبثني الأمر وقتًا ليس بالقصير حتى استطعت ترجمة هذه الكلمات التي قالها، ولم يخف علي ذلك الشعور الدافئ الذي أحسسته، بل وتلك العبرات التي بللت وجنتي، عبرات لم أعلم يومًا أني قادر على ذرفها، وسرعان ما أخرجتني تلك الصفعة الطفيفة على ظهري بمداعبة من شرودي:
-«لم أنت صامت هكذا؟ أمتأكد من أنك ذاك الوليد الثرثار نفسه؟ أم أنك تظن أني قد أصبحت شيخًا هرمًا ولن أستطيع تحمل ثرثراتك المعتادة؟».
كانت هذه أول مرة بعد دهر مضى أحس بلذة الضحك وشعور السعادة الجميل الذي غمر قلبي.
«لا تقلق يا جدي، هما يومان فقط وأجزم بأنك ستطردني من البيت من تلقاء نفسك هذه المرة».
«لقد تحملتك كل هذه السنين الماضية، أأعجز عن تحملك الآن؟».
قبلت رأسه ويديه بفرح غامر لأسحبه نحو أحد مقاعد حديقته الجميلة التي اشتقت لها كثيرًا بالمناسبة، فهي أرض ذكرياتي ومنشؤها.
«فقط لا تنسَ كلامك هذا في ما بعد يا جدي، هيا الآن، فعندي كثير مما أريد قصه عليك».
حقًّا لا أجمل من أن تكون بقرب من تحب، وترى السعادة تشرق من وجوههم بسببك، ولا أسوأ من أن تكون أنت سبب تعاستهم وغرقهم في حزن دامس.
فإن أردت من السعادة أن ترافقك، ومن البركة أن تخاللك، فصل من قطعك وبر رحمك، وتذكر قول النبي صل الله عليه وسلم: «من سره أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، فليصل رحمه» رواه البخاري.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.