حساباتنا المتفائلة صورت لنا أن الموقع هنا مساحة مفتوحة للرأي الحر الصادق، دون تزيين وإيهام رأيناه في وسائل الإعلام في شراء الهواء، وتصَدُّر بعض الأسماء لأسباب مختلفة كالواسطة أو التمويل.
اعتقدنا أننا تجاوزنا هذا في هذه المواقع، وأننا حظينا بشفافية خالصة، وقلنا إنها مساحات بلا رقيب، ولكن الحقيقة أنها كأي مكان في الدنيا يشوبه التزييف والصناعة.
بل ولها أدواتها الخاصة في الرقابة بأسلوب يكاد يكون أسوأ من أية رقابة في العالم الحقيقي؛ لأن الموقع يتعامل معنا بالكم، ويحاول أن يستوعب الأعداد الضخمة بتحويلنا إلى أرقام يترك أمر التعامل معها إلى الذكاء الاصطناعي.
أن يفرز كلامها فرزًا عشوائيًّا، ويعطل الحسابات ويحذف المنشورات حذفًا لا يقبل النقاش، والمراجعة فيه أمر روتيني، ويفرض توجهاته بحجب كل ما كان من شأنه أن يبرز أي صوت مكافئ يعدل كفة الميزان.
فهو لن يجعل لآرائنا مساحة فيما يتعلق بقضايا هي من صلب مكون المجتمع، كالقضية الفلسطينية ونبذ العدو، وأنت إلى ذلك لا تستطيع أن تقول رأيك في المث*ية مثلًا صراحة، وكأنك ملزم بأن تقبلها.
فحينئذ أيضًا يرفض الرقيب أن تتنفس عند السماح لأفكاره أن تدخل بيتك دون أن تبدي رأيك فيها، لا وجود لحرية بلا سقفٍ إلا في أحلام المراهقين، وكل مجتمع قبلت أن تحل عليه من حقه أن تؤدي بقواعده وليس بقواعدك ما دمت لا تملك القدرة على صناعة عالمك، يجب أن نعترف.
أما التزييف الذي ظننا أنه ليس موجودًا كما في وسائل الإعلام فهو موجود وبقوة، ومن بني جلدتنا قبل أي أحد، فهنا أيضًا من يملك التمويل يملك شراء حتى الصفحات الاجتماعية المرحة.
التي تظن وأنت تتابعها أنها تكتب بعفوية وتعلق على يومياتك وعاداتك وذكرياتك ومسلسلاتك المفضلة تلقائيًّا، في حين أنها ليست كذلك.
فيمكن لبعض هذه الصفحات أن يأخذ الأموال ويوهمك أنه يشاركك رأي المشرفين، وأنهم يستمدون هذا من الرأي العام الذي يرونه من واقع احتكاكهم، في حين أن هذا البعض يحاول أن يصنع هذا الرأي العام، ويصور لك واقعًا ليس حقيقيًّا.
وبقدر ما تكتشف هذه العين المدربة والعقل الناضج، فيوجد كثير من العقول البيضاء التي تنساق دون تفكير، لا سيما أنه يستخدم السخرية التي هي وسيلة رهيبة لإقناعك أن الأمر منتهٍ، والمتحدث فرد الدنيا وثناها!
فتجد أن الفائدة الوحيدة من إمكانية التعبير حرية تكاد تذوب وسط هذا الزيف، الذي تتخلله أيضًا المحتويات التي أنفِقَ عليها كثيرًا من الإعلانات الممولة، التي لا فائدة منها في الأغلب سوى تزيين المنشور بالتفاعل المجلوب.
الذي ينشأ بإظهار المحتوى بعشوائية لكثير من الحسابات، التي يتفاعل أصحابها مع أي شيء يظهر لهم لمجرد أنه يظهر لهم، كأنه روتين يومي، مع بعض التعليقات من المهتمين فيمن يظهر لهم هذا.
بينما في الحقيقة المحتوى الشهي قادر على أن يروج نفسه بنفسه، وقد يظفر به أناس لم ينفقوا مليمًا من أجل إظهاره، ويدخل في هذا حقيقة الرزق والنصيب.
الذي قد يجعل أشياء تنتشر رغم قيود الموقع في الوصول أيضًا، والتي فرضها من أجل أن يزيد احتياجك إلى هذه الإعلانات، وأشياء لم يكتب لها أن تنتشر فلا تنتشر.
فضلًا على هذا أن الاستفادة الكبرى من هذه الحرية كانت من نصيب السفهاء، الذين تقلصت حرية تعبيرهم في التطاول على كل ما لا يروق لهم، وكانوا إذا رأوه في الواقع يستحون من مجرد التعليق عليه.
ويكتفون بالانصراف عنه، والتركيز على تفضيلاتهم في صمت، فأتاحته هذه المواقع ليفرغوا فيه كبتهم ونتاج جبنهم وسوء أدبهم؛ لأنهم لا يعرفون عن الحرية سوى هذا النيل من كل من تفوق عليهم، أو اختار أن يعيش بأسلوب لا يشبههم.
لا أقول هذا لأقبح هذه المواقع، بل لأنتصر لحقيقة أن يوتوبيا والعالم الملائكي الذي ينشده الحالمون لا وجود له في أي مكان في الدنيا، وأنَّ تخلل الزيف سنة كونية، ومكون أساسي من حياتنا.
ولن يستطيع أحد أن يخفيه من المعادلة وامتحان المعادن والأخلاق والتربية مهما حاول، حتى وإن ذهبنا إلى كوكب آخر، وليس مجرد كوكب افتراضي!
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.