كان يومًا مشهودًا، ذلك اليوم الذي لمحتها فيه مجددًا بين جموع من الناس ووسط ازدحام وجوه عدة..
لم يكن وجهها ليخفى عليَّ رغم مرور وقت طويل على رؤيتي لها آخر مرة.. كانت تقاسيمه وتعابيره فريدة ومتفردة لدي، حتى إنه بإمكاني تمييزه من بين العشرات، أو حتى المئات من الوجوه المختلفة..
تقفيت أثر مشيها خلسة، كانت تسير بخُطى سريعة، سير الواثق الذي يعرف مقصده.. كعادتها القديمة، لا تلتفت لا على يمينها ولا على شمالها ولا خلقها..
وأنا أسير وراءها خفية محاولًا عدم إثارة انتباه أي كان حول هذا الأمر، كانت مفاجئتي كبيرة وأنا أكتشف أنها ماضية بكل ثبات للمكان الذي جئت قادمًا من أجل زيارته..
كانت دقات قلبي تتسارع مع مرور الدقائق، ومع اقترابنا أكثر فأكثر من المكان، الذي لم يكن سوى تلك الربوة الصغيرة المطلة على البحر، والتي كانت مسرح أول موعد ولقاء بيننا والشاهدة على المحادثة الأولى التي دارت بيننا..
صعدت قمة الربوة وجلست على الصخرة نفسها التي ألفت أن تقعد عليها، فأطلقت العنان لبصرها ليمتد على امتداد البحر.. وفي حين هي غارقة في كتاب ذكرياتها، تقلب صفحاته وتتلمس صور أحداثه، أحسَّت بخطوات شخص يقترب منها ويقصد الصخرة المقابلة التي كانت هي مقعدي الخاص في اللقاءات كلها التي جمعتنا في الماضي..
وأنا أرفع رأسي لألقي عليها نظراتي الاعتيادية، لاحظت أن وجهها قد علته دهشة ممزوجة بفرحة ذكرتني بالنشوة التي كانت تعترينا عند كل لقاءاتنا..
كما في السابق، تبادلنا نفس الابتسامة ونفس النظرات الفاحصة كما لو أننا نكتشف بعضنا للمرة الأولى..
سألتني: كم عمرك الآن؟
أجبتها: بالعقل أم بالجسد؟
قالت: بالعقل..
قلت: لا تقاس العقول بالأعمار..
قالت: إذن بالجسد؟
قلت: لم يدل الجسد يومًا عن العمر ..
حَارَت وقالت لي: إذن كم عشت حتى الآن؟!
قلت: بالنبضات أم بالأرقام؟!
ضحكت وقالت بالأرقام..
قلت: الترقيم قانون لا يسري على القلوب والقلب عرش الجسد..
قالت: إذن بالنبضات..
قلت: تقاس نبضة الحزن بالدهر..
ونبضة الفرح بالثانية..
ولو كنت أذكر لحظات الفرح لجمعت لك رقمًا قريبًا..
قالت: وكيف أعرف عمرك الآن؟
قلت: ليس لمعرفة العمر أهمية في شيء..
العمر تنظيم صحي فقط...
دعي عنك كل هذا..
الحب الحقيقي..
هو أن نزرع في طريق من نحبهم وردة حمراء ..
ونزرع في خيالهم حكاية جميلة..
ونزرع في قلوبهم نبضات صادقة..
ثم لا ننتظر أي مقابل..
(يتبع)
نوفمبر 17, 2023, 1:05 م
محتوى جيد جدا ينم عن حس رومانسي عالي. تعجبني كثيرا كتاباته.
نوفمبر 17, 2023, 5:20 م
اسلوب سلس ينقلك الي حيث المشاهد والصور ولربما حرك فيك شجن قديم .
العنوان يلامس وجدان من يقرأ فكم من حب حقيقي لم تكتمل فصوله ولم يتوج بما يتمنى المحبين إن قدر العشاق العزاب.
نوفمبر 24, 2023, 11:48 م
يسعدني ويشرفني جدا، أخي أسامة، أن تكون خاطرتي قد نالت إعجابك وشهادتك وسام أضعه على صدري وأنا جد ممتن لذلك. وسأكون أسعد إذا أصبحت أحد متابعي مقالاتي حتى أستفيد من آرائك القيمة والمتبصرة فيها لما لمسته فيك من حس إبداعي ونظرة ثاقبة تميزك عن الآخرين. شكرا جزيلا لك عزيزي...
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.