من ثلاث سنوات ونادر يقرأ كثيرًا في علم النفس والفراسة، فأصبح خبيرًا في قراءة لغة الجسد، وفي قراءة الوجه ولغة العيون، وأصبحت هوايته المفضلة قراءة وجه كل من يقابله، فيحدث نفسه..
- هذا الرجل سيفعل هذا الأمر، وسيقول كذا.
ونادر موظف في قطاع المبيعات في شركة العقارات المشهورة، فاصبح يعرف من سيشتري من شركته عقارًا أو من يسأل لمجرد السؤال، ولم يخب حدسه إلا مرات قليلة، وحينها عنَّف نفسه بسبب الإخفاق في تلك المرات.
أما أصدقاؤه فهم لا يعرفون عنه ذلك، فهو لم يقل لأحد من أصدقائه عن هذه الهواية الغريبة، لذا أصبح كلامه عنها عندما يتقابلون، فهم يكونون في غاية الإنصات إليه، وصاروا يطلقون عليه (أبو العريف)؛ لأنه يقرأ وجه كل واحد منهم، ويعرف هل هو في مزاج جيد أم لا، فإذا كان أحدهم في مزاج جيد تركه، وإذا كان أحدهم في مزاج غير جيد تحين الفرصة وكلمه على انفراد في محاولة للتسرية عنه.
ومن تلك السنوات الثلاث يعيش نادر بين شخصين، شخصٍ عاديّ وشخصٍ داخلي يحدثه بما سيحدث من أشخاص بين غرباء عنه وقريبين منه حتى حفظ المقربين منه، فعندما يرى أمه تنظر إليه بابتسام ولمعة عين يعرفها جيدًا يعرف أنها اختارت له عروسًا، وتقديرًا لها ولمكانتها يتركها تتحدث ويضحك بينه وبين نفسه، فهو يرى أمه طيبة لا تركن إلى خبثه، وينتهي به الحال معها إلى إسناد الأمر إلى المشيئة الإلهية، عندها تسكت أمه لأنها متدينة بطبعها، ويقول لها:
- سوف آتى معك لرؤية العروس تطييبًا لخاطرك، لكنك يا أمي، تعرفين عملي، ليس له مواعيد، ذهب معها ذات مرة لرؤية العروس بعد إلحاح شديد منها، وكان متألقًا في تحليل حركة جسد العروس وأهلها، فقد وصل التصنع مداه في ذلك اليوم، والكذب الأبيض وصل إلى أعلى معدل، وكل ذلك ونادر يكتم ضحكته، لكنه لم يستطع فعل ذلك، وطلب الذهاب إلى الحمام، وهناك أقفل على نفسه الباب، وفتح مياه الحوض بأعلى صوت وانطلق في ضحكاته حتى نزلت دموعه، وقال لنفسه:
- إن العروس التى تمسك الكوب بأطراف أصابعها متصنعة للرقة، وتأخذ رشفة صغيرة ثم تضعها على المائدة، وبالتدقيق في وجهها يبدو وجود اسمرار خفيف تحت شفتيها السفلى، لم تستطع مواد التجميل أن تزيل آثاره كاملة.
وهذا دليل على أنها تأكل كثيرًا غير أن جسمها مكتنز بعض الشيء، وهي تشبه أمها، لكنها صورة مصغرة، فهي عندما ستكبر في السن سوف تكون مثل والدتها تمامًا، وأبوها الذي يمسك مسبحة يحركها بين أصابعه بصعوبة ما إلا متظاهر بإمساكها، حتى لا أكون ظالمًا له، فقد لا تكون تلك المسبحة الطويلة هي ما يستخدمها أساسًا.
نظر نادر في المرآة التي أمامه، وحدث نفسه:
- ما الذي أفعله؟ هذا تنمر صريح، إذا لم تعجبه العروس ويريد إرضاء امه فليتخلص من الأمر بلباقة.
وهذا ما سيفعله، تخلص نادر من ذلك الأمر في زمن استغرق سبعة أيام من استرضاء والدته من أن تلك العروس لا تناسبه على الإطلاق، وظهر بعد ذلك الأسبوع في لياقة عالية وهو يمارس هوايته المفضلة في كشف أقوال وأفعال من يقابلهم قبل ان يتكلموا، وقد يفعل ذلك في صمت وهو في المواصلات أو بين زملاء العمل أو مع زبائن شركته.
ومن الذين يسيطر عليهم نادر مديره في العمل (راضي) الذي ترقى إلى رتبة مدير لأقدميته في الشركة، ولعمله الذي يخلو من الاحترافية، فهو تقليدي ويريد من تابعيه الطاعة وتنفيذ الأوامر فقط من غير اعتراض، ولقد قرأ نادر راضي من أول يوم له في الشركة، فهو يطيعه في كل أمر، وقد لا ينفذ ذلك الأمر كما يجب، لكن في النهاية يحقق له ما يريد من مبيعات بكل احترافية، وها هو الساعي يخبر نادر أن راضي يطلبه في مكتبه.
دخل نادر على المدير راضي، فتفرس نادر وجه راضي وأدرك وجود شيء مهم سيطلبه منه، إذ إن راضي يعقد يديه أمام فمه وهو متجهم، ويحدق في باب الغرفة الذي دخل منه نادر، ويراقب من يسير في طريق المكتب لأن حائط المكتب من زجاج، وهنا قال راضي لنادر:
- اجلس وأغلق الباب..
وقبل أن يجلس قال:
- أريدك أن تذهب في مهمة عاجلة اليوم خارج المكتب لأهم عميل لنا في هذه السنة، وتأخذ معك (كتالوجات) العمل، وتأخذ معك زميلك أيمن.
لكن أريدك أنت من تتكلم مع ذلك العميل المهم جدّا، وسيكون الموعد في الساعة التاسعة مساءً في قصر ذلك الرجل، ويجب أن تذهب في سيارة فخمة ستوفرها لك الشركة اليوم بسائقها، وأريدك أن تجعل الرجل يشتري منك أهم (فيلا) في الساحل الشمالي في مشروع الشركة، وأنت تعرف سعرها طبعًا، ذلك الرجل لا يحب المفاصلة في البيع والشراء، أريدك أن تخبره بأنها بـ120 مليون جنيه، ولا تزد عن ذلك ولا تنقص، واترك الأمر بعد ذلك له، وبالمناسبة ذلك الرجل هو وحيد الذهبي.
حين سمع نادر اسمه فتح فمه وقال:
- وحيد الذهبي الملياردير المشهور، ولماذا لم يبعث أحدًا من رجاله لكي يشتري له ما يريد؟
فقال له راضي:
- عليك التنفيذ فقط، لقد أخذنا الموعد منه بمعجزة، وعليك أن ترتدي أفضل ما لديك، وأحذرك من الكلام الكثير معه، وإذا تكلم تصمت تمامًا، ولا تدع أيمن يبتسم ابتسامته البلهاء دون داعٍ، سيطر عليه قبل الكلام مع ذلك الرجل، أريدك أن تنهي تلك الصفقة الليلة، وإياك أن تبدي انبهارك بقصره ومن يعملون معه، أنت فاهم طبعًا.
فقال نادر:
- طبعًا فاهم، وعليك أن تبلغني بما سيحدث بعد المقابلة، بالتوفيق يا وحش.
يتبع...
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.