مكتبات العراق.. كنوز من التراث

لقد عرف العراق بأنه الرحم التي أنجبت أولى الحضارات الإنسانية وأولى الحاضنات الإنسانية التي رعى فيها كل ما هو حضاري ومعبر عن حسن إرادة الإنسان.

وهذا ما تعبر عنه لغة التاريخ عندما تروي تطور أنظمة السلوك الإنساني وشرائعه الدينية والوضعية، كما تشهد على ذلك آثاره بما فيها تلك الموجودة في العراق أو المحفوظة في المناطق الرئيسة في العالم.

قد يهمك أيضًا مكتبة المدرسة وأهميتها في تطوير التعليم

فجر الكتابة الأول

وفي العراق، بدأ الفجر الأول للكتابة من عصر أوروك أو عصر الوركاء في سنة (3200- 3000 قبل الميلاد)، إذ كانت تسمى الكتابة في منطقة وادي الرافدين أو بلاد الرافدين بالخط المسماري، وكانت الألواح الطينية هي الصفحات الأولى، ما أغنى الإنسانية بالمعرفة.

ويتجلى ذلك بوضوح من خلال تعدد موضوعاتها (العلم والفلك والتنجيم والتشريع والأدب)، على غرار المسلة التي عليها شريعة حمورابي الموجودة حاليًّا في متحف اللوفر، بالإضافة إلى الأجهزة اللوحية والآثار الأخرى.

وقد شهد ذلك أيضًا مكتبة نينوى أو مكتبة آشور بانيبال في عهد سرجون سنة (721-705 ق.م)، ومما تم تسجيله قال إنه كان يفتخر بعلمه بقراءة الكتابات وفك رموزها.

ولا تزال مكتبة آشور بانيبال مشهورة بمحتوياتها التي تتضمن سجلًا وثائقيًّا مملوءًا بالعادات والتقاليد التي شهدها المجتمع في ذلك الوقت، والتي كوَّنت في الأساس نظم وقواعد السلوك الاجتماعي.

ودلالةً على التراث المعرفي العراقي توجد 5 أنواع من الكنوز:

· كنوز المعابد والأديرة.

· خزائن السجل المدني عندما تكون المؤسسات شاهدة على المعاملات.

· خزائن أرشيفية عسكرية تحتوي على أسماء العاملين والضباط في هذا السلك والقادة والجنود وغيرهم.

· خزائن الأرشيف التجارية.

· خزائن المكتبة المدرسية أو التعليمية.

قد يهمك أيضًا المكتبات الخاصة في عهد الدولة العباسية

ازدهار الكتابة الهيروغليفية

وفي الوقت نفسه ازدهرت الكتابة "الهيروغليفية" في وادي النيل، ويبدو أن مكتبة الإسكندرية في المستوى الذي وصلت إليه مكتبة نينوى، بل تتفوق عليها من جهة حسن التنظيم والإدارة والفهرسة.

وقد دفع هذا العلماء إلى اعتبارهما أعظم مكتبتين في العصور القديمة، وتميزت مكتبات نينوى والإسكندرية بالإضافة إلى حسن تنظيمها، بابتكارها أسلوب إعارة الكتب واسترجاعها.

ولمعرفة مدى تقدمهم في عصرهم، دعونا نتذكر أن التصنيف الذي اعتمدته المكتبتان يشبه إلى حد ما التصنيف الذي تتبعه مكتبات عصرنا الحالي.

علاوة على ذلك، كانت هاتان المكتبتان خاضعتين لإشراف متخصصين، وكانت فهارسهما متنوعة لدرجة أنها كانت تحتاج إلى مشرفين متخصصين ليس فقط في المعرفة الإنسانية، بل في العلوم أيضًا.

أما الحضارة الإسلامية، خاصة في عصرها الذهبي، فعندما انتقلت الخلافة ومركزها من الشام إلى بغداد، شهدت الحركة الثقافية توسعًا مستمرًّا وأصبحت العاصمة مركزًا للثقافة والمعرفة بكل أطيافها وألوانها الفكرية والطائفية.

وحتى الحركات الاجتماعية مثل حركة القرامطة في البصرة والكوفة وغيرها من الحركات التي امتدت آثارها خارج العاصمة لتشمل المناطق والقصب.

وأضاف اكتشاف الورق أحد أهم عوامل ازدهار الكتب والمكتبات، بالإضافة إلى عامل آخر لا يقل أهمية عن وجود الثقافات المحيطة.

ولم يكتفِ الخلفاء والولاة بتشجيع العاملين في مجالات الكتابة، بل امتدوا إلى المترجمين، حتى بدأت مكافأة المؤلف بمبلغ يعادل وزن مخطوطته.

وهكذا شهدت المكتبات ترجمات الأمهات من الأعمال اليونانية والرومانية والفارسية (الفلسفة والطب وعلم الفلك والأدب وغيرها) من جوانب المعرفة الإنسانية.

قد يهمك أيضًا حين تكون المكتبة بطلاً سينمائياً.. أفلام تجعلك تلتهم الكتب

اتساع دائرة المعرفة

وكان لحركة الترجمة هذه الأثر الكبير في توسيع دائرة المعرفة وزرع أولى بذور التهجين الفكري بين الأمم والشعوب.

ومن العوامل الأساسية التي أسهمت في ما يمكن أن نطلق عليه مجازًا "المشرع المعرفي العربي" في هذا الوقت، ظهور فلاسفة وعلماء ومفكرين ذوي سعة اطلاع كبيرة واهتمام كبير بحركة الكتابة، أمثال: الكندي والفارابي وابن سينا ​​وابن رشد والخوارزمي وإخوان الصفا، لقد أصبح العلم والمعرفة جانبين أساسيين:

· العلم والعلماء.

· الأدباء والكتاب.

والآخرون، أولئك الذين ابتكروا الكتابة وكأنها المبرر الوحيد لوجودهم، ليس طمعًا في المكافآت والهدايا، بل اقتناعًا منهم باستخدام إمكاناتهم وقدراتهم المعرفية في خدمة شعبهم والإنسانية بالكامل.

كل هذه العوامل مع توافر المناخ الأدبي والعلمي وتوافر الظروف الذاتية والموضوعية، أدت إلى ازدهار الكتابة والكتب، وبالتالي إلى ازدهار المكتبات التي أصبحت 7 أنواع كما يلي:

· المكتبات العامة.

· المكتبات الخاصة.

· المكتبات المدرسية.

· مكتبات الخلفاء.

· مكتبات المساجد والجوامع.

· مكتبات الدولة.

· المكتبات المتخصصة.

ومن أمثلة المكتبات العامة مثلًا مكتبة الحكمة في بغداد التي تميزت بغزارة محتوياتها وتعدد موضوعاتها وكثرة زوارها، لأنها فتحت أبوابها للجميع دون تمييز وعلى جميع المستويات مجانًا.

وكان يديرها مشرف متخصص ذو ثقافة واسعة وسمعة الاجتماعية، بالإضافة إلى التاجر والناسخ وبقية الموظفين الآخرين، وجميعهم مدفوع الأجر من الدولة.

قد يهمك أيضًا المكتبات الإليكترونية في الجامعات العربية .. هذه أهميتها

ظهور المكتبات العربية العامة

وتميزت المكتبات العربية بوجود موازنة مالية مستقلة، سواء كانت هذه الميزانية هبة من الدولة أو نتيجة التبرعات والهبات المقدمة من الوزراء والمحافظين والأثرياء من عامة الناس.

وتوجد ميزة أخرى لهذه المكتبات لم تكن شائعة من قبل، وهي احتواؤها على مجموعات عدَّة من المصنفات والمخطوطات القيمة التي تبرع بها مؤلفوها أو أصحابها إلى المكتبات حاملة توقيعاتهم، كما هو الحال في بعض مؤلفات الرازي وابن سينا.

وبالإضافة إلى ميزة الإعارة الخارجية، كان للمكتبات العامة أيضًا ميزة الإعارة الداخلية والنسخ والتدوين بعد تزويدها بالورق والأقلام والحبر.

ولم يكن هذا الأسلوب من التشجيع إلا بداية لهم في تطوير المكتبات الخاصة وإتاحتها، الكتب الأصلية والأعمال المنسوخة.

وفي ظل هذا المناخ الفكري والدعم الكبير لحركة الكتابة والترجمة، كان لا بد من أن تمتد الظلال الثقافية، وأن يشهد المجتمع نشاطًا معرفيًّا ملحوظًا من خلال التعليم وتوسيع دائرة المحافل والمجالس الأدبية والعلمية، "وفي الوقت نفسه، علينا أن نرسخ الجوانب الرائعة في نظم السلوك الإنساني على مستوى العلاقات والقواعد الاجتماعية.

وعلى مستوى إعارة المكتبات مثلًا، يجب على المكتبة بذل كل ما في وسعها للحفاظ عليها، في حين ألزمت إدارة المكتبة بدورها المقترض بتقديم إيداعات نقدية، ولو رمزية، ضمانًا ائتمانيًّا على الكتاب المُعار.

واستمر هذا الوضع حتى في أوائل العصور الوسطى، عندما عانت جميع مجالات الحياة، بما في ذلك المجال الفكري، من انتكاسة خطيرة عندما دخل المغول بغداد، لم يدمروا أسس النهضة الحضرية فحسب، بل حولوا نهر دجلة أيضًا إلى مقبرة للكتب التي وقعت في أيديهم.

قد يهمك أيضًا كامل كيلاني ( 1897 – 1959 ) رائد أدب الأطفال

مرحلة النوم المعرفي

وبعد ذلك، جاءت مرحلة من النوم المعرفي، بدأت خلالها الأفكار القديمة والرجعية تطغى على الساحة من جديد بسبب الاحتلال وهمجية المحتل والإهمال الكبير من سلطات الاحتلال البريطاني، قبل أن تبدأ مرحلة النضال والجهاد الفكري.

وأصبحت المساجد مرة أخرى منتديات فكرية للكتاب والمفكرين والعلماء في ذلك الوقت لمناقشة الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية.

ومن خلال هذه النوافذ انطلقت أشعة الحركات الثورية المناهضة للاحتلال، كما كان الحال مع ثورة العشرين عام 1920م، التي أسست نهضة معرفية جديدة اتسمت ملامحها برفض التخلي عن الثوابت الأساسية للشعب.

على سبيل المثال، اتسمت باشتراط المحتل تحديد مدة وجود مؤقتة مع ظهور حرية التعبير وفتح المدارس وتعليم المرأة والاعتراف بحقوقها المشروعة كضفة ثابتة تواجه ضفة الرجال في النهر الوطني.

إن وجود شخصيات دينية وسياسية واجتماعية مثل: (محمد سعيد الحبوبي، الزهاوي، الرصافي، الجواهري... وغيرهم) الذين أسهموا في تكوين وترسيخ الوعي الوطني العراقي المعاصر أسهم في تأمين متطلبات هذه النهضة الفكرية الجديدة.

وقد أثرت ضغوط هذا الوعي الوطني في المحتل، ففي عام 1920م افتتحت أول مكتبة عامة في بغداد وهي "مكتبة السلام" التي ضمت عددًا كبيرًا من الكتب والمخطوطات الأصلية.

ثم افتُتحت مكتبة "التعليم" التي كانت مفتوحة مدتي عمل (صباحية ومسائية)، ثم دُمجت هاتان المكتبتان تحت اسم "المكتبة العامة"، إذ بلغ مجموع محتوياتها (4283) كتابًا، منها (1427) كتابًا باللغة العربية، و(235) كتابًا باللغة الإنجليزية، و(341) كتابًا باللغة الفرنسية، و(165) كتابًا باللغة التركية.

وافتُتحت مكتبات عامة أخرى مثل مكتبة الوقف عام 1928م، وتميز بناؤها بالطراز الإسلامي القديم، إذ زاد بناؤها على أرض مرتفعة تقع في منطقة "باب الآغا" ببغداد من جمال مظهرها.

وافتُتحت مكتبات جديدة تباعًا ليصل عددها إلى ما يقارب (20) من المكتبات العامة والرسمية لسنة (1953- 1954م) وكان من بينها مكتبة المتحف العراقي وذلك بعد إنشاء مديرية الآثار القديمة.

قد يهمك أيضًا سلاسل الكتب التي تزخر بها المكتبة العربية

دور المكتبات المدرسية

كما حظيت المكتبات المدرسية باهتمام الجهات المختصة لأهميتها في تثقيف المجتمع بمن في ذلك الطلاب والمعلمون، وأنشئت عام 1950م، وربطت بمديرية وسائل التدريس التابعة لمديرية الشؤون الفنية بوزارة التربية والتعليم.

واستعادت المكتبة دورها الرائد في تقديم المعرفة للمجتمع وإتاحتها للطلبة بمصادرها المتاحة، حتى أصبحت المكتبات إحدى وسائل التعليم الرسمية.

ويظهر ذلك في القرار الإداري الرسمي الخاص بالمكتبات المدرسية وتبعيتها، وبحسب مديرية الشؤون الفنية.

فقد بلغ عدد مكتبات المدارس الابتدائية في العراق عامي 1965- 1966م (35144) مكتبة، كما بلغ عدد المكتبات في المدارس الثانوية والمهنية وفي دور المعلمين (479) مكتبة.

لقد فتحت ثورة 14 يوليو 1958م المجيدة الطريق أمام هذه النقلة النوعية، في مجال المكتبات (كما في سائر مجالات حياة المجتمع العراقي) بإصدار قانون المكتبة الوطنية رقم (51) لسنة 1961م وهو القرار الذي يعترف بالدور الرائد للمكتبات (العلمية والأدبية والتراثية) في تحسين حاضر ومستقبل العراق، ليصبح الكتاب رغيف خبز آخر، يضاف إلى المائدة العراقية الشعبية.

وبعد صدور قانون إيداع الكتب رقم (37) لسنة 1971م، أصبح لزامًا على دور الطباعة أن تقدم (3) نسخ من كل كتاب إلى المكتبة الوطنية.

ثم صدر قانون إيداع المكتبة الوطنية عام 1970م لوزارة الإعلام، حتى عام 1977 عند افتتاح مبنى المكتبة الوطنية الجديدة أمام وزارة الدفاع التي تتكون من (3) طوابق وتضم (7) أقسام رئيسة كما يلي:

· قسم التموين.

· قسم الإيداع القانوني.

· قسم الفهرسة والتصنيف.

· قسم الببليوغرافيا والإحصاء.

· قسم القروض والمراجع.

· قسم الدوريات.

· قسم الإدارة والاستقلالية.

قد يهمك أيضًا سرقة الكتب ما بين التبرير والتحريم

مكتبة كلية الحقوق

وإلى جانب المكتبة الوطنية تؤدي المكتبات الجامعية دورًا إيجابيًّا، إذ إن لكل كلية مكتبتها الخاصة المرتبطة بها، وتؤدي المهام والخدمات للمستفيدين (الطلبة والباحثين والأساتذة)، ويُختار الكتب بناء على احتياجات الأقسام المتخصصة واحتياجات الطلاب وفقًا للبرامج الأكاديمية.

وفي عام 1908م شهدت كلية الحقوق إنشاء أول مكتبة جامعية، ثم أعقبها افتتاح دار كبار الأساتذة عام 1923م.

ولم تحظَ هذه المكتبات التي ظهرت في بداية العشرينيات بكثير من التطور والنجاح بسبب عدة عوامل منها:

· معظم القائمين على هذه المكتبات لم يكونوا حاصلين على شهادات جامعية في مجال علم المكتبات، وبقيت الكتب والدوريات "مختارة دون أن تؤثر سلبًا في طموحات الطلاب والعلماء في ما يتعلق بالعامل الأول".

· سوء التخطيط والتنظيم.

· قلة الاهتمام من المسؤولين بهذا الجانب الحيوي خاصة في المرحلة الحالية، واستمرت فكرة فتح المكتبات في الكليات حتى ضمت جامعة بغداد وحدها (21) مكتبة للدراسات العليا عام 1971م، إضافة إلى المكتبات الجامعية الأخرى مثل: (المكتبة المركزية لجامعة بغداد- المستنصرية مكتبة الجامعة- المكتبة المركزية لجامعة الموصل- المكتبة المركزية لجامعة البصرة).

وتوجد مكتبات متخصصة أخرى يمكن الرجوع إليها وهي كما يلي:

· مكتبات الديوان، وهي المكتبات التابعة للوزارات والمؤسسات الحكومية.

· مكتبات المؤسسات التابعة لدائرة أو هيئة مثل (مكتبة بغداد للطاقة الذرية، مكتبة المجمع العلمي العراقي وغيرها).

· مكتبات الأندية والجمعيات والنقابات، وهذه المكتبات خاصة بالمنظمات والنقابات مثل (مكتبة نقابة المهندسين بغداد- مكتبة نقابة المعلمين).

· مكتبة الطفل- تعد أيضًا نموذجًا متقدمًا "سابقًا" من جهة أسلوب بنائها وتعدد أقسامها وغرفها مثل (غرفة القراءة- غرفة الموسيقى- غرفة الرسم- غرفة الألعاب- غرفة المسرح- صالة سينما).

ويوجد العشرات من المكتبات الخاصة ومئات المكتبات المدرسية التي لا تقل أهمية بالنسبة للطلاب والمعلمين من جهة أهدافها ومهامها تجاه المجتمع.